بعد مضي سنوات من دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وملاقاته منهم العنت والصدود والإيذاء، بدأ الإسلام ينتشر، وأخذ عدد الذين دخل الإسلام قلوبهم ـ من غير أهل مكة ـ يزداد يوماً بعد يوم، وكان من الذين وجد الإسلام طريقه إلى قلوبهم ضِماد الأزدي الذي قدم مكة وسمع ما كانت قريش تصف به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنه شاعر أو مجنون، فأتى الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعرض عليه أن يرقيه، وكان ذلك سببا في إسلامه ـ رضي الله عنه ـ .
عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح (الجن)، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: ( لو أنِّي رأيتُ هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك (أرقيك)؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .. قال: فقال: أعِدْ علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر(أي وسطه)، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وعلى قومك؟، قال: وعلى قومي .
قال: فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية، فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟، فقال رجل من القوم: أصبت منهم مِطهرة
، فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد ) رواه مسلم ، (والمطهرة إناء يتطهر به).

وفي قصة إسلام ضماد ـ رضي الله عنه ـ الكثير من الفوائد والعبر التي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها، ومنها :

الحِلم النبوي :

عرض ضماد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معالجته من مرض الجنون، وهذا موقف يثير الغضب، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استقبل ذلك بحلم وصبر، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تستفزه الشدائد، ولا تغضبه الإساءات، فقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من أساء إليه وجهل عليه
رحابة الصدر فيه غير خافية من أجلها عَظُمَت فيهم مكانته

وقد تضافرت الأخبار وكثرت المواقف الدالة على اتصافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحلم، فكان أحلم الناس، يتجاوز عن المسيء، وينصحه ويدعوه، فيشرق ويضيء قلبه بالإسلام، كما حدث مع أبي سفيان يوم جيء به إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ـ مع شدة إيذائه له ـ: ( ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟، قال : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ) رواه الطبراني .

خُطبة الحاجة :

في إسلام ضماد ـ رضي الله عنه ـ ظهرت بركة خطبة الحاجة، فهذه الخطبة التي استفتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها رده على ضمام يقال لها: خطبة الحاجة، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرا ما يجعلها بين يدي خطبه ومواعظه، وكان يعلمها أصحابه، وهي تحوي الكثير من الفوائد، بل حوت أصل الدين وقاعدته وهو توحيد الله ـ عز وجل ـ، ونفي الشريك عنه، واشتملت على أنواع التوحيد، وفيها ثناء العبد على الله بما يستحقه، واستعانته بربه ومولاه، واستغفاره من ذنوبه، وفيها تفويض الأمر إلى الله، والإيمان والإقرار بأن الهداية بيد الله سبحانه وحده، فمن شاء هداه، ومن شاء أضله، وفيها ذكر الشهادتين، وهما مفتاح الدخول في الإسلام، ومفتاح الجنان، وقد أفردها الشيخ الألباني برسالة خاصة بها .

البلاغة النبوية :

من مظاهر عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلائل نبوته أنه أوتي جوامع الكلم، وعظيم البيان، وحلاوة المنطق، فكان يتكلم بالكلام الموجز، القليل اللفظ الكثير المعاني، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة، ولذا فإن ضمادا ـ رضي الله عنه ـ لما سمع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبة الحاجة، ولم يسمع منه أكثر من ذلك، قال: " فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر "، مع أنه ـ رضى الله عنه ـ، سمع الكثير من كلام أهل الشعر والبلاغة، ولكنه علم أن هذا الكلام الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم له طابع خاص، يختلف تماما عما اعتاد عليه، ولو أن أحدا من الناس تكلم بمثل هذا الكلام من قبل، ما حكم ضماد بنبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن ثم فكلامه وبلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، من دلائل نبوته، قال الله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النَّجم الآية 3 : 4 )، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( فُضِّلتُ على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ) رواه مسلم .
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(القصص من الآية:56) :الهداية بيد الله وحده، فكم سمع الكثير من الكفار كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل من آيات القرآن الكريم، ولم يؤمنوا، بل ازدادوا ضلالة وغواية، وهذا ضماد لم يسمع من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلا كلمات معدودة ليست من القرآن، بل من كلامه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، لكنه آمن بغير تردد ولا تحير، وهذا يؤكد أن الهداية بيد الله وحده، وأنه كم في المِحَن من مِنح، فدعاية قريش وتشويههم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتهامهم له بالجنون، حمل ضماد الأزدي ـ رضي الله عنه ـ على السير للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أجل رقيته وعلاجه، فكانت الحرب الإعلامية المكية ضد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سببًا في إسلام ضماد بل وإسلام قومه جميعا، قال الله تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }(البقرة من الآية:216) .

أدب ورجاحة عقل ضماد ـ رضي الله عنه ـ :

ظهر أدب ضماد مع الله في علمه بالله، وما ينبغي إثباته لله ـ عزّ وجلّ ـ، حيث ذكر لنفسه أنه يرقى ـ أي يعالج ـ، وأثبت لله - سبحانه - أنه هو الشافي، حيث قال: " لعل الله يشفيه على يديّ "، ومن بالغ أدبه أنه علق الشفاء بمشيئة الله، فمع الأخذ بأسباب الشفاء، يبقى الأمر لله يشفي من يشاء، فقال ضماد: " وإن الله يشفي على يديّ من شاء "، وهذا الأدب مع الله من قِبَل رجل لم يُسْلِم بعد .
أما أدبه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لم يصفه أو يضف إليه أي كلمة مما اتهمه بها سفهاء مكة، من أنه شاعر أو كاهن أو مجنون، فكل ما قاله: " يا محمد، إني أرقي من هذه الريح "، فلم ينطق بلفظ الجنون، مع أنه اللفظ الذي سمعه من سفهاء مكة، فلم يُعِدْ على سمعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قالوه حتى لا يؤذيه، كما أن من أدبه أنه قال آخر مقالته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم: " فهل لك " بأسلوب عرض، لا بأسلوب أمر أو استهزاء .
أما رجاحة عقله ـ رضي الله عنه ـ فقد استعرض في ذهنه في وقت قصير، قول الكهنة والسحرة والشعراء، وقارنه بكلام النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم، فتيقن أنه رسول من عند الله ..
فسبحان الله، دخل ضماد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرقيه مما اتهمه به سفهاء مكة، فخرج من المجلس وقد أسلم هو وقومه، ولعل إسلامه ـ رضي الله عنه ـ جاء ببركة أدبه مع الله ـ عز وجل ـ، وأدبه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .