تفسير قول الله تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَو ْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِ ينَ...

يقول الله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَو ْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِ ينَ * يُخَادِعُو نَ اللَّهَ وَالَّذِين َ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُون َ إِلَّا أَنْفُسَهُ مْ وَمَا يَشْعُرُون َ * فِي قُلُوبِهِم ْ مَرَضٌ فَزَادَهُم ُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون َ ﴾ [البقرة: 8 - 10]. الكلام من أول السورة في شأن الكتاب الكريم الذي لا ريب فيه، وفي هدايته وأن الناس بإزائه على أقسام: فمنهم المتقون الذين انتفعوا بهداه؛ وصحت قلوبهم وحيت أقوى الحياة وأطيبها بعلومه وشرائعه وآدابه ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِك َ هُمُ الْمُفْلِح ُونَ ﴾ [البقرة: 5] في الدنيا والآخرة. ومن الناس من تغلفت قلوبهم بغلف الهوى والعصبية الجاهلية للآباء والشيوخ، وأشرب في قلوبهم تعظيم ما ورثوا من عادات وتقاليد زينها لهم شياطين الإنس والجن فصدوهم بها عن السبيل فهم لا يهتدون؛ ونفخوا في أنوفهم ريح الغرور والاستكبار ، فوغرت صدورهم بالحسد والبغي؛ وحرجت نفوسهم بما جاءهم به بشر مثلهم، وواحد منهم هو أفقرهم مالا، وأقلهم ثراء وغنى - زعموا - وقال الشيطان الرجيم على لسان خبيث قريش يبرر موقفه الآثم: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا؛ وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء!! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمح به أبداً، ولا نصدقه. وعلى غراره يقول الخبيث المخبث حيي بن أخطب وقد سأله أخوه أبو ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قال نعم والله. قال تعرفه بنعته وصفته؟ قال نعم والله. قال فماذا في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت. أولئك الذين ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم ْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِه ِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7] ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم ْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه ُ وَفِي آَذَانِهِم ْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 57] ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5] ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَن َ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون َ بِالْآَخِر َةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَ ا عَلَى قُلُوبِهِم ْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه ُ وَفِي آَذَانِهِم ْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَن ِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِه ِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 45، 46]. وهذا القسم من الناس عظيم الشر كثير الفساد، لما كان من عدائه الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم وللذي جاء به، وللذين آمنوا معه. فلطالما أثاروها حرباً شعواء جمعوا لها كل ما يملكون من وقود، وساقتهم إليها قلوب تغلي بالحقد غليان المراجل؛ وصدور تفور بالضغن فوران البراكين تقذف بالحمم، ولكن الرسول والذين آمنوا معه تلقوا كل ذلك متحصنين بكل ما استطاعوا من قوة؛ وباعوا أنفسهم لله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجاهدوا ذلك العدو الظاهر في مواقع عدة، وأوجفوا عليهم بخيلهم ورجلهم، فآتاهم الله النصرة والعزة وأيدهم بروح من عنده ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِ مْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِن ِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25] ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]. ومهما كان شر الذين كفروا وفسادهم في الأرض عظيما؛ فأعظم منه وأكثر إمعانا في الفساد: شر القسم الثالث، الذين يلبسون لباس الإخاء ظاهراً، ويتزينون بثوب المحبة والإيمان علنا، وقلوبهم أشد من قلوب الذئاب عداوة وغلا، جلد لين ناعم الملمس، وتحته خبث الحية الرقطاء؛ وروح الشيطان الرجيم، وإنك ليسهل عليك اتقاء العدو الظاهر العداوة بما تأخذ من أسباب الحيطة في سد مسالكه، أو التحصن بالجدران والأسوار والدروع والسلاح وما إلى ذلك؛ أما العدو الذي يخالطك باسم الصديق، وتأمن له باسم الحبيب؛ وتسكن إليه باسم الأخوة، وتلقى سلاحك وأنت مطمئن إليه؛ وتطلعه على دخيلة أمرك؛ وتعرفه مسالك طريقك ومدخلك ومخرجك؛ إن هذا العدو لأشد نكاية، وأخبث شرا، وأعظم فساداً من ذاك بما لا يقدر قدره إلا الذين حنكتهم الحوادث، وعركتهم التجارب، وعلمتهم الخطوب والأهوال وقليل ماهم. هذا العدو الشرير، المخادع الخبيث؛ الماكر المتفنن: هم المنافقون الذين عناهم الله تعالى، وفضحهم وأخزاهم بقوله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَو ْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِ ينَ ﴾ [البقرة: 8]. هذا العدو الشرير: هو الذي حاول مراراً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطفئ نور الله، وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره ورغم من ذلك العدو اللعين. هذا العدو الشرير: هو الذي حاول إشعال الفتنة في سقيفة بني ساعدة. لولا لطف الله فوقي شرها بالقوى المحنك، النافذ البصيرة المحدث. معز الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فبادر البيعة لأبي بكر. وأطفأ الفتنة في مقرها. هذا العدو الشرير: هو الذي ألب من حول المدينة من الأعراب الذين لما تطمئن قلوبهم بالإسلام. فكفر من كفر؛ ومنع الزكاة من منع، محاولا القضاء على الإسلام. فرد الله كيد الشيطان في نحره؛ وأقام لها الصديق الصادق القوي الرشيد أبابكر رضي الله عنه ، فوطئها وطأة قضت عليها، وردت العقول إلى الرؤوس، والإسلام إلى القلوب فقذف بتلك القلوب المطمئنة بالإسلام ذات اليمين وذات الشمال تجاهد في سبيل الله؛ تعلي كلمة الله، وتنير القلوب بهداية الله، وتقاتل أعداء الله أعداء أنفسهم، وتقودهم إلى الحق على رضا أو وهم كارهون حتى ضرب الإسلام بجرانه في ذروة المدائن الفارسية، وقمة قصور الشام وما والاها من مصر والمغرب، وتم ذلك في خلافة القوى في دينه وسياسته الرشيد في أمره؛ الذي كان يرى بنور الله، ويستقرئ القلوب والضمائر بإلهام الله؛ ولا تنام عينه في الكلاءة والحياطة لدين الله: البطل الأوحد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. هذا العدو الشرير الماكر الخبيث: هو الذي فكر وقدر، ثم فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر؛ ثم أدبر واستكبر؛ ثم بيت وأوقع الداهية الكبرى، والفجيعة العظمى؛ وهد الركن الركين؛ والعماد الرفيع للإسلام: عمر بن الخطاب شهيد المنافقين، لأن عمر كان أقوى الأقوياء على ذلك العدو الشرير؛ وأبصر الناس بمكايده ودسائسه، وكان نظره ينفذ إلى أعماقهم فيستجلي ما تستبطنه من الضغينة للإسلام ويتتبع أمرهم بنظره الثاقب فلا تفوته منهم صغيرة ولا كبيرة من مكرهم ولا أحابيلهم التي كانوا ينصبونها فخاخا للمسلمين: سواء في ذلك الكذب على رسول الله والقول عليه ما لم يقل، أو ابتكار الشبه التي يحاولون بها تشويه الفطرة الإسلامية، وإصابة القلوب بأمراض الشكوك والريب. فلقد كان عمر يأخذهم على ذلك بأصرم العقوبة وأقسى التأديب، لما يرى من خلالها من شرر الفتنة الماحقة: ضرباً؛ وحبساً؛ ونفياً وتشريداً. فلما رأوا السبل قد سدها أمامهم عمر، مكروا به وأحكموا مكيدتهم حتى انتهت باغتياله رضي الله عنه وهو قائم لصلاة العشاء على يد اللعين الرجيم أبي لؤلؤة. وانكسر بذلك الباب الذي دخلت منه الفتن على الإسلام من كل صوب وناحية؛ ولن يغلق حتى تقوم الساعة مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في حديث الفتنة - ولن يكون للإسلام أيام كأيام عمر، ولا عدل كعدل عمر؛ ولا سياسة كسياسة عمر، عمر الملهم المحدث الذي ينظر إلى الحوادث بنور الله. رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء. ولو لم يكن لذلك العدو إلا تلك الفعلة النكراء لكفى في طبع قلوب المسلمين على عدائه والحذر منه أبد الدهر. هذا العدو الشرير الماكر الخبيث: هو الذي جمع الوقود والحطب للفتنة التي أكلت عثمان بن عفان الشهيد المظلوم ورمت المسلمين بعد بالدواهي، فقد ذهبت فراسة عمر، وصرامة عمر، وقوة عمر، وحزم عمر؛ فأخذ العدو يضع أصبعه في كل عمل، باسم القرابة لعثمان، أبو بغير اسم القرابة؛ وما زال يجمعها أعودا عودا؛ ويفتل حبلها طاقة طاقة، حتى أحكمها فتنة عمياء تركت الحليم حيرانا، طاشت فيها الأحلام، وأغلقت أبواب التفكير، وسدت منافذ الخلاص، واضطربت الأفئدة اضطرابة أذهلت الجميع عن الطرق التي يخلصون بها من هذه الفتنة، حتى اتقدت نيرانها، وعلا لهبها وشررها، ولكن هيهات، فقد تمادوا في إهمالها، فما أخذ أحد في طريق إلا لحقته الفتنة من بين يديه ومن خلفه. ثم تتابعت وامتد لهبها واتسع نطاقها، حتى أكلت عثمان بن عفان، فانتهكت حرمة المدينة، وحرمة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرمة السابقية إلى الإيمان والهجرة والجهاد، وحرمة الخلافة والدولة؛ وحرمة العرض والكرامة، بل انتهكت حرمة المسلمين جميعا، فدخلت الذئاب البشرية على عثمان، وهو يقرأ في المصحف، فقتلوه شر قتلة لهم، وخير قتلة لهذا الشهيد المسكين بفتنة ذلك العدو الشرير الخبيث لعنه الله شر لعنة، ورضي الله عن ذوي النورين الذي كانت الملائكة تستحي منه، المبشر بالجنة، السابق في جميع أبواب الخيرات الإسلامية؛ عثمان بن عفان رضي الله عنه وغفر الله له. هذا العدو الشرير الخبيث هو الذي استهان بالأمر بعد قتل عثمان؛ فكان من أيسر الأمور عليه بعد ذلك أن يوقد نار الحرب بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ وبين معاوية. وأنا أعتقد أنه ما كان قصد هذا العدو عليا ومعاوية لشخصيهما؛ وإنما كان القصد أن يقع بأس المسلمين بينهم فتذهب ريحهم؛ وينطفئ سراجهم وتتلاشى قواهم، ويقوض صرح الدولة الإسلامية لتعود مرة ثانية دولة الفرس والروم، ودولة الشرك والوثنية التي كانت قلوب هذا العدو مشربة حبها، ومفتونة بعبادتها. هذا العدو هو الذي قلب الدولة الأموية باسم أولاد علي؛ فلما لم يستطع؛ جعلها باسم أولاد ابن عمهم العباس، ثم تركهم بدون أن يجعلها دائما حربا بين العلويين والعباسيين هذا العدو هو الذي استولى على الدولة الإسلامية باسم البرامكة المجوس، فأحدث كثيرا من البدع المجوسية لتعظيم النار وبقي منها إلى الآن إيقاد شمعتين كبيرتين كل ليلة على باب الكعبة أمام المصلين، وإيقاد المصابيح والنيران الكثيرة في أيام المواسم والأعياد وذلك من تعظيم النار؛ ومن آثار أولئك المجوس الذين حين تبين للخليفة هارون الرشيد بعض أمرهم نكل بهم أشد التنكيل ولم تأخذه بهم شفقة لأنهم لا يستحقونها، فإنه يؤثر عن جعفر بن خالد البرمكي لعنه الله أنه قال: ماذا صنع أبو مسلم الخراساني؟ لقد نقلها من أسرة إلى أسرة، أما نحن فقد نقلناها من أمة إلى أمة ومن دين إلى دين. يعني الخبيث أن أبا مسلم نقلها من بني أمية إلى بني العباس، أما البرامكة فنقولها من العرب إلى الفرس، ومن الإسلام إلى المجوسية. هذا العدو الشرير هو الذي فتح على المسلمين أبواب الشبه والشكوك في عقائد القرآن وتوحيد القرآن وإيمان القرآن، بما ترجم لهم في عصر بني أمية من كتب اليونان والفرس في الفلسفة الإلهية، وحشا عقولهم بها؛ وجاء المأمون لا أقال الله عثرته فألزم الناس بها إلزاما، وفرضها على الناس فرضا، طاعة لأوليائه من ذلك العدو الفارسي الذي استولى على الدولة. ثم ابتكر فكرة شيطانية خبيثة: هي القول بخلق القرآن، وتشدد فيها تشدداً عجيباً، وأخذ العلماء فيها بمنتهى القسوة والغلظة؛ كأنها ركن من أركان الإسلام أو أصل من أصوله، وليس لها من القيمة إلا أنها بنت الفكر الرجس؛ ووليدة الرؤوس القذرة المملوءة بالبغض والعداء للقرآن وهداية القرآن، وعلوم القرآن وشرائع القرآن. وما للناس وهذا؟ القرآن كلام الله جاء به رسول الله، فهدى الله به الناس، فما علينا إلا أن نأخذه كذلك؛ وأن نعرض كل الإعراض عن تلك المقالات والبحث فيها سلباً أو إيجابًا؛ فإنها مشغلة للعقل؛ مزلة إلى الشك والريبة، ومدعاة إلى اتباع الهوى والضلال. ولا يزال إلى الآن وإلى ما بعد الآن إلى ما شاء الله يصطلي العلم الإسلامي والهدي القرآني وحزبه بنار هذه النظريات اليونانية والمقالات الصوفية الفارسية الهندية؛ حتى عاد الإسلام غريبا كما بدأ، وأصبحوا لا يعرفون في التوحيد إلا طريقة هؤلاء ونظريات هؤلاء، ولا يرون طريقة القرآن وهداية القرآن شيئاً يستحق العناية والبحث، فيضيعون الوقت الط*** في تلك الكتب والنظريات ويبخلون على القرآن ببعض القليل من هذا الزمن، لأنه لا حاجة بهم إليه؛ ولا بغية لهم فيه. فعلمهم وهدايتهم وإيمانهم، وفروعهم وأصولهم من غير القرآن. هذا العدو الخبيث الشرير هو الذي جاء إلى مصر من بلاد البربر في المغرب الأقصى مما نسل الخبيث اللعين عبيد الله القداح اليهودي طريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. جاء ذلك العدو باسم الفاطميين وفاطمة عليها السلام وأبوها صلى الله عليه وسلم، وبنوها رضي الله عنهم، برآ من تلك الطغمة المجرمة اللعينة - طغمة الفاطميين أحلهم الله ما هم له أهل في دار النكال - ففعلوا بمصر وبلاد المشرق الأفاعيل، وبنوا من الأوثان؛ ونصبوا من الطواغيت باسم الحسين - والحسين والله منهم ومن عملهم بريء - وباسم غير الحسين - ما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يهدمه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فيهدم أولئك العبيديون وأولياؤهم ما بنى رسول الله وآل بيته من التوحيد وإخلاص الدعاء والعبادة كلها لله وحده، وبنوا ما هدم من الأنصاب والقباب والطواغيت، وعبادة الموتى ودعائهم والنذر لهم من دون الله، والأعياد الشركية للموتى باسم الموالد، وصرفوا القلوب عن الله وعن دين الله وكتاب الله إلى تلك الطواغيت، والعقائد الزائفة، وأرغموا الناس على لعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقالوا على الله غير الحق؛ وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، ولقي الإسلام، وشرائع الإسلام وعقائد الإسلام، وعلماء الإسلام من شرهم وأذاهم قديما وحديثا، ما لا يعلم آخرته ونهايته إلا الله وحده والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا العدو الشرير هو الذي عمل على تفريق الأمة إلى شيع وأحزاب؛ وطرائق مختلفة ومذاهب شتى، وفتنهم بها فتنة أعمتهم عن كل خير وعن كل هدي وعن كل نور، وألبس الحق بالباطل؛ فأراهم الهدى ضلالاً والضلال هدى، والعلم جهلاً والجهل علماً، والشرك توحيداً والتوحيد زيغاً، والذكر كفراً، والفسوق والعصيان ذكرا، وآيات الله البينات أساطير الأولين، وكلام الدجالين، وقول الشياطين علماً وهدى ونوراً، والقدوة الحسنة من الرسول وأصحابه وأتباعهم قدوة سيئة، وأئمة الكفر الشرك واللاعبين بدين الله؛ والهازئين بسنة محمد صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، وعلى الإجمال نكس القلوب وعكسها وأعماها، ونزع الدولة من أيديهم وأذلهم أعظم الذلة لعدوهم ولا يزال هذا العدو إلى الآن هو الذي يمكن للمستعمر الأوربي في كل بلد إسلامي باسم التصوف والتزهد، وبأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. وهم أشد الناس تكالبا على الدنيا، وأحرص الناس على حياة. ولا تجد أحداً من المسلمين يبيع نفسه للمستعمر الأوربي ويعمل لنكاية وطنه وأمته إلا أولئك الذين يدعون التصوف والتزهد، وذيولهم وصنائعهم ممن نزع الشيطان من قلوبهم حب الله وكتابه ورسوله ودينه، وغرس فيها حب الخرافات وحثالات الأفكار، والظنون واتباع الهوى، وعبادة الأولياء والموتى الذل لهم من دون الله. وما كان لقلب قطع عن ربه وبارئه الحي القيوم، وحرم الذلة وإخلاص العبادة لفاطر السموات والأرض؛ وأُشرب الذلة والعبادة واللجأ للأخشاب والأنصاب، والقباب والمقاصير والطواغيت وللموتى الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا. ما كان لقلب كذلك أن يعرف معنى العزة، ولا أن يتذوق طعم الكرامة، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يفقهون. وليعذرني القارئ في إطالة هذا التمهيد، فإننا بحاجة أشد الحاجة إلى معرفة عدونا وصفاته لنحذره ونحذر آثاره ومكايده. وما أرى تفسير القرآن الكريم إلا بهذا الأسلوب الذي يشرح مقاصد القرآن شرحاً تطبيقياً على الأحوال الحاضرة والوقائع الحادثة، فإنه هدى للناس في كل وقت، ونور لهم في كل طريق ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَن َ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9] وليعتبر أولو الألباب ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37] وما ذكرت إلا رءوس مسائل. لعل الله أن يوفق لبسطها وشرحها في وقت قريب إن شاء الله تعالى. هذا ولا أعرف في القديم والحديث - بعد الرسول والصحابة - من أوتي الفقه في القرآن، ورزقه الله الفهم الصائب فيه؛ والحكمة في شرح مقاصده ومراميه، والغوص على درره واستخراجها من أعماق بحاره صافية مشعة: مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وجزاهما أحسن الجزاء، لأجل هذا أنا حريص جد الحرص على أن أنشر ما أجد لهما من تفسير آيات أو سور. وهو مع الأسف قليل مبعثر في ثنايا كتبهما. وليتنا نظفر لهما أو لأحدهما بتفسير كامل. وسأنقل للقارئ الكريم كلام الإمام ابن القيم من كتاب طبقات المكلفين: ثم أنقل له كلامه في أمراض القلوب وعلاجها من إغاثة اللهفان. ثم شرح المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين. من اجتماع الجيوش الإسلامية. والله الموفق للصواب. قال الإمام ابن القيم في طبقات المكلفين: الطبقة الخامسة عشر: طبقة الزنادقة. وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله. وهؤلاء هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا. فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف منهم، وهم فوقهم في دركات النار، لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق. وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين. ولهذا قال تعالى في حقهم ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْه ُمْ ﴾ ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم. ولكن لم يرد ها هنا حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم، ومخالطتهم إياهم: أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة، وجاهرهم بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين المعاشرين لهم - وهم في الباطن على خلاف دينهم - أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة؛ وألزم وأدوم. لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر. وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحا ومساء يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم. فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر فلهذا قيل ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْه ُمْ ﴾ لا على معنى أن لا عدو لكم سواهم؛ بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوا من الكفار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له، فيتصدق عليه" فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذي لا تسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطواف الذي تسمونه مسكيناً. والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياء ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفئ الله نورهم، ويقال لهم ﴿ ارْجِعُوا وَرَاءَكُم ْ فَالْتَمِس ُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13] ويضرب بينهم وبين المؤمنين ﴿ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ وَظَاهِرُه ُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَ هُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّك ُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُ مْ وَتَرَبَّص ْتُمْ وَارْتَبْت ُمْ وَغَرَّتْك ُمُ الْأَمَانِ يُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم ْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 13، 14] هذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاء: أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج، ورأى منازل السعداء اقتطع عنهم، وضربت عليهم الشقوة. ونعوذ بالله من غضبه وعقابه. وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة، وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداء، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرا؛ وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين، ولهذا قال تعالى في المنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُم ْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم ْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُون َ ﴾ [المنافقون: 3] وقال فيهم ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُون َ ﴾ [البقرة: 18] وقال في الكفار ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُون َ ﴾ [البقرة: 171] فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمى، وعرف ثم تجاهل؛ وأقر ثم أنكر، وآمن ثم كفر. ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً؛ وأعتى على الله ورسله فاستحق الدرك الأسفل. وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق: طلب العز والجاه بين الطائفتين، فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضا. ومن هنا دخل عليهم البلاء. فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين. ولم يكن لهم غرض في الإيمان والإسلام، ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم ووجهتهم إلى الكفار. فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل؛ وهو أن جعل مستقرهم في أسفل السافلين تحت الكفار. فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاء بأهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنهم من المؤمنين وإبطان قلوبهم الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله: أمر اختصوا به عن الكفار. فتغلظ كفرهم فاستحقوا الدرك الأسفل من النار. ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة البقرة فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن - وهم المنافقون - ذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات. وفي حق الكفار آيتين. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية، ذمهم فيها غاية الذم، وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاء المفسدون في الأرض، المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون؛ وأنهم مرضى القلوب؛ وأن الله يزيدهم مرضا على مرضهم، فلم يدع ذما ولا عيبا إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ بالله من مثل حالهم ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف الله به المنافقين في القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسفل. فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده. ووصف قلوبهم بالمرض، وهو مرض الشبهات والشكوك، ووصفهم بالإفساد في الأرض والاستهزاء بدينه، وبالطغيان، واشتراء الضلالة بالهدى وبالصمم والبكم والعمي والحيرة، والكسل عن عبادته، والزندقة، وقلة ذكره؛ والتردد، وهو التذبذب بين المؤمنين والكفار فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. والحلف باسمه تعالى كذبا وباطلا وبالكذب، وبغاية الجبن وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبالرب وبأنهم مضرة على المؤمنين. ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر: من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاء الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق؛ وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين، . وبكراهتهم النفاق في مرضاة الله وسبيله. وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم. فيلمزون المتصدقين، ويعيبون الذين لا يجدون إلا جهدهم. ويرمون مكثرهم بالرياء وإرادة الثناء في الناس. وأنهم عبيد الدنيا: إن أعطوا منها رضوا وإن منعوا سخطوا. وبأنهم يؤذون رسول الله وينسبونه إلى ما برأه الله منه، ويعيبونه بما هو من كماله وفضله. وأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين ولا يطلبون إرضاء رب العالمين. وأنهم يسخرون من المؤمنين وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله. ويكرهون الجهاد في سبيل الله. وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل. وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله. وأنهم مطبوع على قلوبهم؛ وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه. وأنهم أحلف الناس بالله كذبا. قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم. وهذا شأن المنافق: أحلف الناس بالله كاذبا، وقد اتخذ يمينه جنة ووقاية. ووصفهم بأنهم رجس؛ والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره؛ فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم وأذلهم، وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان، يقصدون التفريق بينهم؛ ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهئونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم، وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً. وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء. وهذا عادتهم في كل زمان. وبأنهم ارتابوا في الدين؛ فلم يصدقوا به، وغرتهم الأماني الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساما، تعجب الرائي أجسامهم والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسندة، لا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق؛ بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر وليسوا وراء ذلك شيئا. وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها، وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة، كحال كثير من الزنادقة. وإما احتقارا وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك. ووصفهم سبحانه بالاستهزاء به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، وبنسيان ذكره، وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين. وبأن الشيطان قد استحوذ عيهم وغلب عليهم، حتى أنساهم ذكر الله. فلا يذكرونه إلا قليلا، وأنهم حزب الشيطان؛ وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله، وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم. وأن البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وبأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكذب والخيانة في الأمانة، والغدر عند الخصام والخلف عند الوعد؛ وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعا؛ وترك حضورها جماعة. وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء. ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها: الشح على المؤمنين بالخير. والجبن عند الخوف فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن سلقوا المسلمين بألسنة حداد، فهم أحد الناس ألسنة عليهم، كما قيل:
جهلا علينا وجبنا عند عدوكم
لبئست الخلتان: الجهل والجبن.

وأنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم، ومخبئات قلوبهم؛ وأما عند الأمن فيجب ستره. فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبئات وبدت الأسرار ومن صفاتهم: أنهم أعذب الناس ألسنة، وأمر قلوبا، وأعظم الناس تخالفاً بين أعمالهم وأقوالهم. ومن صفاتهم: أنهم لا يجتمع فيهم حسن سمت وفقه في دين أبداً. ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم؛ وسرائرهم تناقض علانيتهم. ومن صفاتهم: أن المؤمن لا يثق بهم في شيء، فإنهم قد أعدوا لكل أمر مخرجا منه بحق أو بباطل، بصدق أو بكذب. ولهذا سمي واحدهم: منافقا. أخذاً من نافقاء اليربوع؛ وهو بيت يحفره اليربوع ويجعل له أسراباً مختلفة. فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر. فلا يتمكن طالبه من حصره في سرب واحد. فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء. ومن صفاتهم: كثرة التلون وسرعة التقلب؛ وعدم الثبات على حال واحد، بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره. فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلا. جيفة بالليل قطرب بالنهار[1]. ومن صفاتهم: أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم. قال تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُون َ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَم ُوا إِلَى الطَّاغُوت ِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَا نُ أَنْ يُضِلَّهُم ْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِ قِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْه ُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم ْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُون َ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيق ًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم ْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِ مْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 60 - 63]. ومن صفاتهم: معارضة ما جاء به الرسول بعقول الرجال وآرائهم ثم تقديمها على ما جاء به. فهم معرضون عنه؛ معارضون له؛ زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم دون ما جاء به. فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين. فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعمهم أنه لا يستفاد منه هدى؟. ومن صفاتهم: كتمان الحق والتلبيس على أهله، ورميهم لهم بأدوائهم، فيرمونهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله: بأنهم أهل فتنة مفسدون في الأرض. وقد علم الله ورسوله بأنهم هم أهل الفتن المفسدون في الأرض. وإذا دعاه ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير مشوبة رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله، رموهم بالزوكرة والتلبيس والمحال. وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب لينفروهم عنه. وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه. وجملة أمرهم: أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم. وليس على الأديان أضر من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم. ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم وبيّن أحوالهم؛ وكرر ذكرهم لشدة المؤنة على الأمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم؛ وفرط حاجتهم إلى معرفتهم؛ والتحرز من مشابهتهم، والإصغاء إليهم. فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى؟ وعدوهم ومنُّوهم ال*** والثبور. فكم لهم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان؟ وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان؟ وأسير لا ير** له الخلاص؟ وفار من الله لا إليه؟ وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار، وتوجب دخول النار. من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأيهم مزقت عنه ثياب الدين والإيمان؛ وقطعت له مقطعات من البلاء والحرمان والشقاوة. يمشي على عقبيه القهقرى إدبارا منه وهو يحسب ذلك إقبالا. فهم والله قطاع الطريق حقاً. فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء حذار منهم حذارا، وهم الجزازون ألسنتهم شفار البلايا. ففروا منهم أيها الغنم. فرارا، ومن البلية أنهم الأعداء حقاً، وليس لنا بد من مصاحبتهم؛ وخلطتهم أعظم الداء وليس بد من مخالطتهم. قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها؛ فبعداً للمستجيبين . ونصبوا شباكهم حواليها على ما حُفَّت به من الشهوات، فال*** للمغ****. نصبوا الشباك ومدوا الأشراك. وأذَّن مؤذنهم: يا شياه الأنعام: حيَّ على الهلاك، حي على التباب فاستبقوا يهرعون إليه. فأوردهم حياض العذاب. لا الموارد العذاب. وأسامهم من الخسف والبلاء أعظم خطة وقال: ادخلوا باب الهوان صاغرين، ولا تقولوا حطة حطة؛ فليس بيوم حطة. فوا عجباً لمن نجا من أشراكهم لا من علق. وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق؟!. فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلوا بالمحل الذي أحلهم الله من دار الهوان، وأن ينزلوا في أردأ منازل أهل العناد والكفران. وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة. ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول "يا حذيفة، ناشدتك الله، هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً". يعني أفتح هذا الباب في تزكية الناس. وليس معناه أنه لم يبرأ من النفاق غيرك. وقال ابن أبي مليكة "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل". انتهى كلام ابن القيم، ودرره الغوالي، التي وصف بها أولئك المنافقين في الزمن الأول وفي زمنه أدق وصف وأجلاه. ويبدو لك من ثنايا كلامه شكواه الحري من كيد أولئك المنافقين له ولشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله. وهم له مخالطون؛ وبصور الإسلام وأهل الزعامة فيه ظاهرون. وهكذا خلفاؤهم اليوم وفي هذا الزمن يقفون من الرسول وسنته وكتاب الله موقف سلفهم الأولين، وقدوتهم السابقين، حذوك النعل بالنعل. فيا أيها المسلم الناصح لنفسه؛ ها أنت ترى أمام عينك وصف أولئك الذئاب الضارية واضحاً جلياً، قد أقام الله به الحجة لك أو عليك. فاحذر أن تكون من الهالكين؛ وبادر بنجاة نفسك، من صفاتهم وأعمالهم ودعاتهم وضلالهم، وزغلهم وإفسادهم؛ لتكون من الفائزين. فهم والله اليوم أكثر الكثير. وأشدهم بلاء أولئك الذين خدع بهم الجهلة والدهماء من الناس لأنهم لبسوا زي العلماء؛ ونطقوا باسم الدين؛ والدين منهم بريء؛ وكلما ازدادت الجاهلية كلما عظمت بفسادهم وشرهم البلية، فاللهم لطفا لطفًا يا أرحم الراحمين. أبعدنا عنهم ونجنا من كيدهم ومكرهم إنك أنت السميع العليم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


[1] القطرب: دويبة لا تستريح نهارها سعيا، فشبه بها الرجل يسعى نهار في حوائج دنياه، فإذا أمسى كان كالًا تعبا، فينام ليلته حتى يصبح كالجيفة التي لا تتحرك.