الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا


الله - جل جلاله - يحبُّ من عباده الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كبنيان مرصوص، والقتال أحد أنواع الجهاد في سبيل الله - جل جلاله - وهو على رأسها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُو نَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم ْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]، ومما لا بد من الإشارة إليه هو أن الجهاد أنواع؛ فمن أنواعه: جهاد الكلمة، والجهاد بالمال، وجهاد هوى النفس، وجِهاد الشَّيطان، وجهاد مَلذات الدنيا، ولكن المعبِّر عن غاية الحب لله - جل جلاله - هو جهاد السيف؛ أي: القتال؛ لأن المحب يقدِّم فيه أغلى ما يُمكن لحبيبه، وهي نفْسه التي بين جنبَيه، غير أن هذا النوع من أحباب الله - جل جلاله - الذين يقاتلون في سبيله جاء مشـروطًا بقرينة؛ وهي أن يكون القتال جمعيًّا وليس فرديًّا، كما ينبغي أن يكون الصف صفًّا واحدًا يشابه البنيان المرصوص؛ لأن العمل الجماعي من الواجبات الشرعية للأعمال الكبيرة والمهمَّة في الإسلام، وهل هناك واجب أهم من القتال في سبيل الله - جل جلاله - حين تأزف ساعته؟! ووصف القرآن الكريم أن مَن يُحبُّهم الله - جل جلاله - من المقاتلين في سبيله بأنهم صفٌّ كأنهم بنيان مرصوص، فإن في ذلك بعض الإشارات، فمنها: 1 - الذين يقاتلون بمعنى الجمع، والعمل الجمعي فيه كثير من المنافع التي تعود على الفرد والجماعة على حد سواء، فالبعض يُشجِّع البعض الآخر فيزدادون شجاعة، ويحدث التنافس الشـريف بين أعضاء الجماعة، ويعين بعضهم البعض عند الحاجة، ويراقب الفرد المنطوي مع الجماعة مراقبة مجانية في الخير من قِبَل أعضاء الجماعة. 2 - البناء يعبر عن النظام الذي يسبقه التخطيط، فوصفهم بـ "البنيان" يعني التهيئة المناسبة وتوفير مستلزماته ومواده ليكون بناءً يَفي بالغرض. 3 - رص البناء (المرصوص) يعبر عن شدة التماسك والقوة الناتجة عنه. 4 - انتفاء وجود ثغرات في البنيان المرصوص مما قد تسبَّب في حدوث تصدع يفضي إلى انهيار البناء. 5 - تماسك البناء المرصوص ووقوفه شامخًا أمام التحديات كافة. 6 - البنيان المرصوص يمثل الهيبة التي تبعث الرعب في قلوب العدو. قال الماوردي - رحمه الله - في "النُّكَت والعيون": "﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُو نَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ﴾ [الصف: 4] مصطفين صفوفًا كالصلاة؛ لأنهم إذا اصطفُّوا مثلاً صفَّين كان أثبت لهم وأمنع من عدوِّهم، قال سعيد بن جبير - رحمه الله -: "هذا تعليم من الله للمؤمنين"، ﴿ كَأَنَّهُم ْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]، فيه وجهان: أحدهما: أن المرصوص هو الملتصق بعضه إلى بعض، لا تَرى فيه كـوّةً ولا ثقبًا؛ لأن ذلك أحكم في البناء من تفرُّقِه، وكذلك الصفوف؛ قاله ابن جُبَير، قال الشاعر:
وأشجرُ مَرصوصٌ بطينٍ وجندلٍ
له شُرُفاتٌ فوقهنَّ نَصائبُ
والثاني: أن المرصوص المبني بالرصاص؛ قاله الفراء، ومنه قول الراجز:
ما لقيَ البيضُ من الحرقوص[1]
يَفتح باب المُغلَق المَرصوص"[2]ج

وجعل الله - جل جلاله - القتال في سبيله معيارًا للتمييز بين القلوب المريضة والقلوب السليمة؛ قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْ مَرَضٌ يَنْظُرُون َ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي ِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 20]. فمن أجل ذلك فقد بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القِتال في سبيل الله على حقيقتِه؛ لأن الناس تُقاتِل من أجل أغراض مُختلفة، وحتى هذه الأغراض التي نتكلم عنها لا يُمكن الحكم عليها إلا بصدق وصفاء النوايا؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدَنا يُقاتل غضبًا، ويُقاتِل حميةً، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائمًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله - عز وجل))[3]. ولقد جعل الله - جل جلاله - القتال في سبيله ظاهرًا من غير نية بينة صادقة خالصة لوجه الله - جل جلاله - جهادًا لا ينفع صاحبه، بل سيُحاسَب المرء حسابًا شديدًا إن كانت تلك النيـة سيئة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إنَّ أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأتي به فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار...))[4]. ولا يصل من يحب الله - جل جلاله - إلى هذه المرتبة حتى يجاهد أشياء في نفسه قبل القتال بالسيف؛ يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "قال تعالى: ﴿ وَالَّذِين َ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَ نَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِن ِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكملُ الناسِ هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرَضُ الجهاد؛ جهادُ النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمَن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبلَ رِضاه الموصِّلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد، قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم، فينا بالتوبة، لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلا مَن جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمَن نُصـر عليها نصـر على عدوِّه، ومن نُصرَتْ عليه نُصـر عليه عدوُّه"[5]. ويقول ابن الجوزي - رحمه الله - في جهاد الشيطان: "رأيت الخلقَ كلهم في صف مُحاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويَضـربونه م بأسياف اللذة، فأما المخلِّطون فصرْعى من أول وقت اللقاء، وأما المتَّقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بدَّ مع طول الوقوف في المحاربة من جراح، فهم يُجرحون ويداوون إلا أنهم من القتل محفوظون"[6]. ويقول سلطان العلماء العزُّ بن عبدالسلام - رحمه الله -: "ولما كانت الأنفس والأموال مبذولةً في الجهاد، جعل الله مَن بذَل نفسَه في أعلى رتب الطائعين وأشرفها؛ لشـرف ما بذَله مع محو الكُفرِ ومحق أهله، وإعزاز الدين وصون دماء المسلمين"[7]. والقتال في سبيل الله - جل جلاله - من أعظم الطاعات وأجلِّها، وأعظمها أجرًا، وهي تجارة رابحة، وأي ربْح يَربح المرء عندما يُتاجر مع رب العالمين - جل جلاله؟! قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِن ِينَ أَنْفُسَهُ مْ وَأَمْوَال َهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُ ونَ وَيُقْتَلُ ونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَا ةِ وَالْإِنْج ِيلِ وَالْقُرْآ نِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْش ِرُوا بِبَيْعِكُ مُ الَّذِي بَايَعْتُم ْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

[1] جاء في تهذيب اللغة للأزهري: "الحُرْقُوص : دُوَيْبَة مُجزَّعة لها حُمَةٌ كحمة الزُّنبور وتلدغ، يشبَّه به أطراف السيَاطِ".
[2] النكت والعيون (تفسير الماوردي)، الماوردي، (5 / 528).
[3] صحيح البخاري، باب: مَن سأل وهو قائم عالمًا جالسًا، (1 / 58)، حديث: 123.
[4] صحيح مسلم، باب من قاتل للرياء والسمعة استحقَّ النار، (3 / 1513)، جزء من الحديث: 1905.
[5] الفوائد، ابن قيم الجوزية، (ص: 59).
[6] صيد الخاطر، ابن الجوزي، (ص: 189 - 190).
[7] أحكام الجهاد وفضائله، العز بن عبدالسلام، (ص: 53).