وضع المرأة في الإسلام


نعود إلى وضْع المرأة في الإسلام، لنعرف إن كانت ظروفنا التاريخية والجغرافية والاقتصادي ة والعقيدية والتشريعية ، تجعل للمرأة "قضيَّة" تُكافِح من أجلها، كما كان للمرأة الغربيَّة قضية، أم إنها شهوة التقليد الخالصة، والعبودية الخفيَّة للغرب، التي تجعلنا لا نُبصِر الأشياء بعيوننا، ولا نراها في حقيقتها هي التي تملأ الجوَّ بهذا الضجيج الزائف في مؤتمرات النساء؟ ومن البديهيات الإسلامية التي لا تحتاج إلى ذِكْر ولا إعادة، أن المرأة في عُرْف الإسلام كائن إنساني، له رُوح إنسانيَّة من نفس "النوع" الذي منه رُوح الرجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]. فهي إذًا الوَحدة الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير، والمساواة الكاملة في الكِيان البشري تترتَّب عليها كل الحقوق المتَّصِلة مباشرة بهذا الكِيان، فحُرْمة الدم والعِرض والمال، والكرامة التي لا يجوز أن تُلمَز مواجهة أو تُغتاب، ولا يجوز أن يتجسَّس عليها أو تُقتَحم الدور، كلها حقوق مُشترَكة لا تمييز فيها بين جنس وجنس، والأوامر والتشريعات فيها عامة للجميع: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُ مْ وَلَا تَنَابَزُو ا بِالْأَلْق َابِ ﴾ [الحجرات: 11]، ﴿ وَلَا تَجَسَّسُو ا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُم ْ حَتَّى تَسْتَأْنِ سُوا وَتُسَلِّم ُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُم ْ تَذَكَّرُو نَ ﴾ [النور: 27]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وعِرضه، وماله))[1]، والجزاء في الآخرة واحد للجنسين: ﴿ فَاسْتَجَا بَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195]، وتحقيق الكِيان البشري في الأرض متاح للجنسين: الأهلية للمُلك والتصرف فيه بجميع أنواع التصرف؛ من رهْن وإجارة ووقْف وبيع وشراء واستغلال.. .إلخ، ﴿ لِلرِّجَال ِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَ انِ وَالْأَقْر َبُونَ وَلِلنِّسَ اءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَ انِ وَالْأَقْر َبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]، ﴿ لِلرِّجَال ِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُو ا وَلِلنِّسَ اءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن َ ﴾ [النساء: 32]، هذا في الوقت الذي ظلَّت فيه المرأة الأوربية أكثر من اثني عشر قرنًا بعد الإسلام لا تَملِك من الحقوق ما أعطاها الإسلام، ثم هي حين ملكتْها لم تأخذها بسهولة، ولا احتفظت بأخلاقها وعِرْضها وكرامتها، ولم يكتفِ الإسلام بتحقيق كِيان المرأة في مسألة الملكيَّة، بل حقَّقه في أخطر المسائل المتعلقة بحياتها، وهي مسألة الزواج، فلا يجوز أن تتزوَّج بغير إذنها، ولا يتم العقد حتى تُعطي الإذن، ((لا تُزوَّج الثيب حتى تستأمر، ولا تزوج البِكْر حتى تُستأذن، وإذنُها صُمَاتُها) )[2]، ويُصبِح العقد باطلاً إذا أعلنت أنها لم تُوافِق عليه، بل أعطاها الإسلام الحقَّ أن تَخطُب لنفسها، وهو آخر ما وصلت إليه أوربا في القرن العشرين، وحسبته انتصارًا هائلاً. ويَبلُغ من تقدير الإسلام لمقوِّمات الكِيان البشري - في عصور كان يغشاها الجهل والظلام - أنِ اعتبر العلمَ والتعليم ضرورة بشرية، ضرورة لازمة لكل فرد، لا لطائفة محدودة من الناس، فقرَّر للملايين حقَّ التعليم، بل جعله فريضة ورُكنًا من الإيمان بالله على طريقة الإسلام، وهنا كذلك يَحِق له أن يفخر بأنه أول نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنها كائن بشري لا يَستكمِل مقوِّمات بشريَّته حتى يتعلَّم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء، فجعل العلم فريضة عليها كما هو فريضة على الرجل، ودعاها أن ترتفع بعقلها، كما ترتفع بجسدها ورُوحها عن مستوى الحيوان، بينما ظلَّت أوربا تُنكِر هذا الحقَّ إلى عهد قريب، ولم تستجِب إليه إلا خضوعًا للضرورات، إلى هذا الحد وصل تكريم الإسلام للمرأة[3]. لقد كان الناس يتجهَّمون لمولد الأنثى وتَسْوَدُّ وجوههم لمَقْدَمِه ا، وكان الأعرابي يقول: والله ما هي بنِعم الولد! نصرُها بكاء، وبِرُّها سرقة، حتى ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فصان حياتَها، وأحسن استقبالَها ، ورفَع منزلتَها، وهي طفلة، ثم وهي زوجة، واستوصى بها خيرًا، وجعل الجنةَ تحت أقدام الأمهات، ووصلها بالحياة الإسلامية العامة، فأباح المسجد لها تَطرُقه مع الرجال خمسَ مرات في اليوم، ومكَّنها من الجهاد إذا أطاقته، ويَسَّر لها الالتحاق بخدمة الجيش، تُمرِّض الجرحى، وتسقي العطشى، بل تُعين على نُصْرة الحق إذا وجب العونُ؛ فإن أم سلمة حملتِ السيفَ في موقعة أُحد ساعة الرَّوْع، كما قاتلت صفية بنت عبدالمطلب في غزوة الأحزاب، وصرعت أحدَ اليهود، وولى عمر بن الخطاب "الشفا ء" أمرَ السوق في المدينة، وكانت امرأة كاتبة. وسوَّى الإسلام بين الجنسين في أعمال البرِّ كلها، فأرجحهما عند الله ميزانًا أخلصُهما نية، وأكثرهما سعيًا، إلا أن العمل الأول للمرأة هو حُسْن التبعل للزوج، أو بتعبير العصر الحاضر: حُسْن القيام على شؤون البيت، وأحوال الأسرة، ورعاية الرجل والأولاد، وإجادةُ المرأة لهذا الواجب في هذه الأنحاء يُغنيها عن سائر الواجبات العامة من اجتماعية أو سياسية، إن الجهد المبذول في هذه الأنحاء ثانوي بالنسبة إلى الوظيفة الأولى للمرأة، وهي الإشراف على الأحوال الداخلية للأمة، ومن الكلمات السائرة: أن وراء كل رجل عظيم امرأة، وفي هذا الكلام كثير من الحق، فإن الرجل الكبير في حاجة إلى من تُريح أعصابَه، وتُخفِّف عنه أعباءه، وتُنشِّطه إذا كلَّ، وتُسكِّنه إذا قَلِق، بل إن كل رجل بحاجة إلى مِثْل هذه المرأة، تُشاطِره مغارمَ الحياة ومغانمها. والذي لا شكَّ فيه أن الإسلام يتضمَّن أصولاً تَكفُل للنساء أفضل ما يَعِشن به وافرات كريمات، ولو رجعنا البصر في أحوال المرأة المسلمة قبل ألف سنة، لرأيناها استمتعت بمزايا مادية وأدبية لم تُعرَف للنساء في القارات الخمس، ونحن نؤكِّد أن هذه المرأة قبل ألف سنة كانت أشرف نفسًا، وأربى حظًّا، وأزكى وضْعًا من زميلتها الآن في الغرب، ذلك ما لم تكن حريَّةُ العري والمُخادنة منظورًا إليها - في هذه المقارنة - على أنها كَسْب للمرأة ودعْم لقضيَّتها. وإذا كان قد ساء وضْعُ المرأة في القرون الأخيرة مع خمودِ العقل الإنساني، وضياع نضرته، وسيطرةِ التُّرهات والأوهام على اتجاهاته، فليس ذلك ذنب الإسلام. ولا عجب! فهل كان يُر** بقاء المرأة في المكانة التي بوَّأها الإسلام إياها، مع انحدار المجتمع كله، وذهول الرجال عن وظيفتهم في الحياة، وغيبوبة الأمة كلها عن وعيها؟ إن تعاليم الإسلام تقلَّصتْ في ميادين شتى، فليس بغريب أن تتقلَّص في العلاقة بين الجنسين، لقد تقرَّر سجن المرأة في أغلب المدن، وعُدَّت جدران البيوت "الحدود الأربعة" لفِكْرها ونشاطها، وقصرت على الناحية الحيوانية وحدها، وكانت أثرة الجنس الأقوى وغيرته على شهواته الخاصة - هما أساس ذلك المسلك، وهل يُتَّهم الإسلام بهذا؟ الحق أن المرأة تأخَّرت تأخُّرًا شنيعًا عدة قرون، والذين أخَّروها أَلغوا رسالةَ الإسلام بالنسبة لها، وأسقطوا عنها واجبات التعلُّم والعبادة والإدراك السديد لحقيقة الدين وحقوقه، وحقيقة الدنيا وواجباتها، ولا صلاح لشأنها إلا بالعودة إلى تعاليم الإسلام نفسه، كما طُبِّقت أيام السلف الصالحين[4].

[1] رواه مسلم: كتاب البِرِّ والصِّلة، باب تحريم ظُلم المسلم وخذْله واحتقاره، ودمه وعِرضه وماله (2: 424) بتمامه، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4: 270).
[2] رواه أبو داود وسكت عنه، كتاب النكاح، باب في الاستئمار (2: 231).
[3] شبهات حول الإسلام (111- 115) بتصرف، و"الإسل ام والسياسة"؛ د. حسين فوزي النجار (ص: 79، 80) بتصرف.
[4] "الإسل ام والطاقات المعطَّلة" ؛ محمد الغزالي (ص: 103 - 108) بتصرف.





أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي