قلْ تَعَالَوْا ْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا ْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَا لِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا ْ أَوْلاَدَك ُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُ مْ وَإِيَّاهُ مْ وَلاَ تَقْرَبُوا ْ الْفَوَاحِ شَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا ْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُم ْ تَعْقِلُون َ (151) الدرس السابع:151 - 153 الوصايا العشر وصراط الله المستقيم وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات , يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر , لتقوم عليها المحرمات والنواهي , لمن استسلم لها وأسلم:
قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم:ألا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحسانا , ولا ت***وا أولادكم من إملاق , نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا ت***وا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن , حتى يبلغ أشده , وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . . .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد , وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة , وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات , وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات , مرتبطة بعهد الله , كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا , فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم ; وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ; ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية ; بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
(قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). .
قل:تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم - ! لقد حرمه عليكم(ربكم )الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه , وموضع سلطانه . فالذي يحرم هو "الرب" والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
(ألا تشركوا به شيئاً). .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ; وترجع إليها التكاليف والفرائض , وتستمد منها الحقوق والواجبات . . القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي ; وقبل الدخول في التكاليف والفرائض , وقبل الدخول في النظام والأوضاع ; وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم ; لا يشركون معه أحداً في ألوهيته , ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ; ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ; ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك , وتنقية العقل من أوشاب الخرافة , وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية , وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لأنه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشدالإنكار كله له ; حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله , ولا رب لهم إلا الله , ولا حاكم لهم إلا الله , ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر , من عبادة أو خلق أو عمل . .
من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة:
ألا تشركوا به شيئاً . .
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا , لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه:
(قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا , والذين لا يؤمنون بالآخرة , وهم بربهم يعدلون). .
يجب أن نذكر هذه الآية , وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً . . إنه الشرك في الاعتقاد , كما أنه الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر , والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر , لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية , قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة , وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام , يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية ; أولاستنكار انحلال أخلاقي ; أو لمخالفة من المخالفات القانونية . ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية , وموقعها من العقيدة الإسلامية ! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية , ولا يستنكرون المنكر الأكبر ; وهو قيام الحياة في غير التوحيد ; أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية , أوصاهم ألا يشركوا به شيئا . في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا !
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة , وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ; وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات , واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
(وبالوالدي ن إحسانا . ولا ت***وا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم). .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء , وأوصى الآباء بالأبناء ; وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة , والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم:إنه هو الذي يكفل لهم الرزق , فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ; ولا تجاه الأولاد في ضعفهم , ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً . .
(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن). .
ولما وصاهم الله بالأسرة , وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدةالنظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة , ولا استقامة مجتمع , في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش:ك ل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها , فتكون هذه واحدة منها بعينها . وإلا ف*** النفس فاحشة , وأكل مال اليتيم فاحشة , والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص(الف واحش)هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع , لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج , والتهتك , والاختلاط المثير , والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة , والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن . منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف ! وكلها مما يحطم قوام الأسرة , وينخر في جسم الجماعة , فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد , ويحقر من اهتماماتهم , ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية , كان التعبير: ولا تقربوا . . للنهي عن مجرد الاقتراب , سداً للذرائع , واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراماً , وكانت الحركات المثيرة , والضحكات المثيرة , والإشارت المثيرة , ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة ! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود , ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق , وهو اللطيف الخبير . .
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين , وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة , من يزينون للناس الشهوات , ومن يطلقون الغرائر من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام !
(ولا ت***وا النفس التي حرم الله إلا بالحق). .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة:ال شرك , والزنا , و*** النفس . . ذلك أنها كلها جرائم *** في الحقيقة ! الجريمة الأولى جريمة *** للفطرة ; والثانية جريمة *** للجماعة , والثالثة جريمة *** للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة , منتهية حتماً إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبىء بالمصير المرتقب لأمم ينخرفيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات , مجتمع مهدد بالدمار . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات , لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن *** الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن ***(النفس) عامة . فيوحي بأن كل *** فردي إنما يقع على ***(النفس) في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية: (. . . أنه من *** نفساً , بغير نفس أو فساد في الأرض , فكأنما *** الناس جميعاً , ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها , وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها , وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته , لا يُؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته , ولم يتركه للتقدير والتأ*** . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة , وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة !
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة . فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع , لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف , يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس , وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس !
كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس !
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية , وتلك في آية , وبينهما هذا الإيقاع .
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده). .
واليتيم ضعيف في الجماعة , بفقده الوالد الحامي والمربي . ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة - على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها و***ها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه ; حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ; فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة , وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه:
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده).
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه , حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله , ويحسن القيام عليه . وبذلك
الأنعام
من الاية 152 الى الاية 152
وَلاَ تَقْرَبُوا ْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا ْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَ انَ بِالْقِسْط ِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُو اْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم ْ تَذَكَّرُو نَ (152)
تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً ; وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك , بلوغ الحلم . وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون , وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها -).
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف . والسياق يربطها بالعقيدة ; لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية , وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة , وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات , وبين الشرائع والمعاملات . . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: (قالوا:يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)?!
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء , وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة , للدلالة على طبيعة هذا الدين , وتسويته بين العقيدة والشريعة , وبين العبادة والمعاملة , في أنها كلها من مقومات هذا الدين , المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى). .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع , على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد ; بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل ; وفي قوة القرابة سند لضعفه ; وفي سعة رقعتها كمال لوجوده , وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم , أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل , على هدى من الاعتصام بالله وحده , ومراقبة الله وحده , اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى , وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ; وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله:
(وبعهد الله أوفوا). .
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر , المأخوذ على فطرة البشر , بحكم خلقتها متصلة بمبدعها , شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). .
المفضلات