من خصائص الإسلام

الاعتراف بالعواطف الإنسانية


لله هذه الشريعة، ما أطهرها! وما أيسرها! شرعها العليم الخبير لتهدي الإنسان إلى سبل السعادة في الدنيا والآخرة، فكلها سماحة ويسر، وخير وبر، وهدى ورحمة. تأمرنا هذه الشريعة بالرفق في أمرنا كله، ولم تجشمنا عنت المنبت ولم تكلفنا فوق ما نطيق: قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق؛ إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى؛" فما أجمل هذا التشريع وما أعدله!. من الشرائع الأولى ما كان عقوبة للأمم بسيئات تورطوا فيها؛ وآثام أسرفوا في اجتراحها، قال تعالى ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّه ِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِ مُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِ مْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِ لِ وَأَعْتَدْ نَا لِلْكَافِر ِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161] وقال تعالى ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَم ِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُم َا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُم َا أَوِ الْحَوَايَ ا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاه ُمْ بِبَغْيِهِ مْ وَإِنَّا لَصَادِقُو نَ ﴾ [الأنعام: 146]. بين تعالى أنه شدد عليهم في التشريع؛ وحرم عليهم طيبات كانت لهم حلالا طلقاً، وأنزل لهم شريعة تشعرهم بالحرمان من مشتهياتهم وما يحبون، ليسلس قيادهم، ***ين جماحهم، وتخضع أعناقهم الصلبة؛ ويثوبوا إلى الحق، ويذعنوا له، ويقلعوا عما أمعنوا فيه من ظلم وبغى وعدوان، وشره يغريهم بأكل الربا الذي حرم عليهم؛ وجشع يدفعهم إلى التهام أموال الناس بالباطل، وإسراف في الصد عن سبيل الله، والبعد عن الحق والخير. لقد بلغ من غلوهم في الإعراض عن الحق أنهم لم تكد أقدامهم تجف من ماء البحر؛ يوم فلق الله لهم البحر، وأنقذهم من ظلم فرعون وعسفه وبطشه، حتى قالوا لموسى: اجعل لنا إلها نعبده. لم يرضهم أن يعبدوا إلهاً حياً، قادراً، عليما؛ سميعاً؛ بصيراً؛ لا تدركه الأبصار، ولا تحيط بعظمته العقول، فطلبوا أن يصنع لهم نبيهم وثنا يعبدونه، وصنما تعنوا له وجوههم. قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْن َا بِبَنِي إِسْرَائِي لَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُون َ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون َ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُم ْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُم ْ عَلَى الْعَالَمِ ينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَ اكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَ كُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُو نَ أَبْنَاءَك ُمْ وَيَسْتَحْ يُونَ نِسَاءَكُم ْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 138 - 141]. هذا الشعب الذي فضله الله على العالمين، ورزقه من الطيبات وأنزل عليه المن والسلوى، جدير بأن يعاقبه الله هذه العقوبة؛ ويحرم عليه الطيبات التي أحلها له، لكفره بنعمة الله، وتماديه في المعصية والعدوان: ﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُ مْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾. أما المطهرة البيضاء؛ خاتمة الشرائع، وتاج الدين كله، فقد جاءت تدعو إلى سماحتها ويسرها شعوب الأرض كافة تبيح لهم الطيبات جميعاً؛ ولا تحرم عليهم إلا الخبائث؛ وتضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، لا تكلفهم إلا وسعهم لهم ما اكسبوا من الخير والبر، وعليهم ما اكتسبوا من الإثم، لا تؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا؛ ولا تحملهم من الأمر ما لا يطيقون. علم الله تعالى أن النفوس قد أحضرت الشح، وأنه إن يسأل الناس أموالهم فيحفهم يبخلوا ويخرج أضغانهم، وعلم تبارك اسمه أنهم إن لم يمدوا الدولة بالمال، تعرضت لألوان من الشر والفساد، وضعفت عن مقاومة العدو وثار الفقراء وأولو الخصاصة بالأغنياء وأولي الطول، وأيقظوا الفتنة النائمة، فهبت صاخبة صارخة، منذرة بال*** والثبور، وسوء المصير؛ فدعا الناس إلى البذل؛ دفاعا عن أنفسهم ودولتهم حتى لا يتعرضوا للهلاك قال تعالى ﴿ وَأَنْفِقُ وا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيك ُمْ إِلَى التَّهْلُك َةِ وَأَحْسِنُ وا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِن ِينَ ﴾ [البقرة: 195] ولكنه لم يطالبهم إلا بنصيب يسير، لا يرزؤهم، ولا يرهقهم عمن أمرهم عسراً هو ربع العشر من المال الذي حال عليه الحول يصد به عنهم شر الفقراء، ويكف عنهم أذاهم. وهذا أقل قدر يمكن أن تفرضه حكومة عادلة مصلحة تقدر شعور رعاياها، وترعى عواطفهم؛ لتنفق منه في سبيل الله؛ وسبيل الجماعة، وتعود بفضله على العجزة والمساكين والذين لا يجدون ما ينفقون. علم أن العاطفة الجنسية قد تطغى على الإنسان فتعرضه لألوان من العنت والفتون، فدعا الشباب إلى الزواج ليحوطوا أنفسهم بسياج من العفة يحفظ عليهم نصف دينهم ثم وضع علاجا ناجعا لغير أولي الطول الذين لا يستطيعون سبيلا إلى النفقة على الأزواج، وهو الصوم الذي يدعو إلى مراقبة الله تعالى وخشيته، ويهذب النفوس، ويسمو بها فوق الشهوات الدنيا؛ فيفثأ حدتها ويخمد جمرتها، ويخفت صوتها، وينقل الشباب من التفكير فيها إلى التفكير في أمور أخرى تدفع إلى المغامرة في ميادين السمو والطموح إلى المجد، وقال عليه الصلاة والسلام "يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أحصن للفرج؛ وأغض للبصر ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وعلم تعالى شأنه أن من النفوس نفوساً ضعيفة لا تقاوم سلطان هذه العاطفة، ولا يمكنها وُجدها من زواج المحصنات المؤمنات، فأباح لهم زواج الإماء إن خشوا العنت. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَن َاتِ الْمُؤْمِن َاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُك ُمْ مِنْ فَتَيَاتِك ُمُ الْمُؤْمِن َاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِ كُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُو هُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ َ وَآتُوهُنّ َ أُجُورَهُن َّ بِالْمَعْر ُوفِ مُحْصَنَات ٍ غَيْرَ مُسَافِحَا تٍ وَلَا مُتَّخِذَا تِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِ نَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَن َاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء: 25]. لم يبح الرهبانية لعلمه أن فيها محاربة للفطرة التي فطر الناس عليها، وكبتاً لعاطفة إذا استجيب لندائها في الحدود الشرعية، كانت عوناً على بقاء النوع، ومن يكبتها تعرضه إلى داء عضال، ما لم يسمُ بها؛ ويوجهها إلى فن من الفنون الرفيعة، أو يرصدها لطاعة الله تعالى. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يصوم النهار ويقوم الليل؛ فنهاه عن ذلك لأن الفطرة لا تطيقه بل تهجم له العين، وتنقه له النفس. فاستمع إلى البخاري يحدثنا عن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا؛ وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله. فشددت فشدد علي. قلت: يا رسول الله إني أجد قوة. قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: نصف الدهر. وكان عبد الله يقول بعد ما كبر: ليتني قبل رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم". أفبعد هذا اعتراف بحق العاطفة الإنسانية؛ ونزول على العدل من حكمها؟ أباحت الشريعة الغراء لمن يريد أن يتزوج من امرأة أن ينظر إلى وجهها وكفيها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما. لأن الوجه مرآة الضمير، ولأن الكفين عنوان البدن، فبالنظر إليهما يستطيع أن يدرك خفي عواطفها، وأن يتبين كل ما يهمه من أمرها؛ وأن يعرف هل تروقه، وتنال رضاه، وتقع من قلبه؟ وهل يسره أن يتخذها شريكة له في بناء الأسرة، واحتمال أعباء الحياة وتكاليفها. الزواج عهد يستبيح به كل الزوجين المتاع بصاحبه، ***تزم إحسان عشرته، والوفاء بحقه، فإذا تزوج الرجل من امرأة قبل أن يراها، ثم رأى نفسه أمام زوج لا ترضى عاطفته، ولا تحل من نفسه مكان الرضا؛ ولا يراها موضع أنسه وينبوع مسرته، فلا يلبث أن يقوض صرح الأسرة، ويهدم كيانها، ولست أحدثك عن مصير الأطفال وما ينتظرهم من الشقاء الحتم، ولكن الإسلام كان أبر بالإنسانية من أن يجمع في عقدة النكاح بين زوجين تتنافر قلوبهما، وتتباعد عواطفهما ولا تأتلف أرواحهما؛ ليشقى كل منهما بصاحبه، ويشقى بشقائهما الأطفال الأبرياء. كذلك لم تبح الشريعة لأب ولا ولي أن يزوج فتاته من زوج لا ترضاه. سواء عليها أكانت بكراً أم ثيباً. فإذا زوجها كارهة فزواجها مردود. وهذه الخنساء بنت حزام الأنصارية، زوجها أبوها وهي ثيّب، ولم تكن راضية عن هذا الزواج ولا مغتبطة به، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه أمرها، وترجو الخلاص من زوج لا تألفه ولا ترضاه، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك النكاح؟ ونعمّا صنع!.. وكيف ترغم المرأة على عشرة رجل تبغضه، وكيف تتم بينهما المودة والرحمة والتعاون على إنشاء الأسرة وحفظ النوع؛ وأداء رسالة الحياة، وهي أهم بواعث الزواج؟ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر؛ ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت[1]. فما أجمل ذلك الشرع الحكيم. وما ألصقه بقلوب الحكماء، وعقول العقلاء". علم الله أن من العواطف ما لا قبل للإنسان بكبح جماحه؛ أو رد شماسه، فجعل ذلك عفواً لا إثم فيه؛ ولم يكلف الإنسان من معاناته ما ليس في وسعه. يتزوج الإنسان امرأتين فيعدل بينهما في القسم والنفقة ولكنه لا يستطيع أن يعدل بينهما في الحب والميل النفسي، فلو كلفه الله ذلك لكلفه شططا؛ والله أرحم بالإنسان من أن يكلفه ما لا يطيق؛ وعاطفة الحب والبغض يعتاص على الإنسان قيادها ويستعصى عليه امتلاك ناصيتها، فلا جناح عليه إن لم يجعلهما في الحب سواء. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام وهو الكامل المعصوم "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". وعسى أن توازن بين هذا التشريع الذي يقر حكم العاطفة، ويعترف بها؛ والتشريع الذي يقول لأتباعه "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم" وهيهات هيهات لما يطاع.

البكاء انفعال يبعثه الألم، أو تثيره الذكرى، وفيه راحة للنفس، وتخفيف من أوقارها، والدموع تطفئ لواعج الحزن وتخمد جمرته، وإذا اندفعت العاطفة إلى البكاء فاستجيب لها، كان في هذه الاستجابة علاج لجراح القلب وكلومه. وأما إذا كبتت فإنها تفتك بالمجموعة العصبية، ويمس الإنسان من جراء ذلك الكبت داء عضال؛ وتستحوذ عليه الكآبة، ويستبد به الحزن، وكفى به باعثاً إلى بغض الحياة والتبرم بالأحياء حاملا على اليأس والقنوط؛ واليأس طريق الخيبة والفشل. قدر الإسلام هذه العاطفة الإنسانية حق قدرها فلم يحرم البكاء تبعثه عاطفة الرحمة والحنان، أو يثيره الألم والذكرى، ولكنه حرم النياحة عنوان السخط على الأقدار، ودليل عدم الرضا بحكم الله. وأما البكاء في غير نياحة فهو من الرحمة التي قذفها الله في قلوب عباده المؤمنين، وليس عليهم من سبيل إن هم فعلوا. حدث الإمام البخاري قال: "أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابناً لي قد قبض فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى؛ وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي ونفسه تتقعقع "قال حسبته أنه قال: كأنها شن" ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام؛ فأخذ رسول الله إبراهيم فقبله وشمَّه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة. ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع؛ والقلب يحزن، لا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" فنعم الدين دين لا يصادم العاطفة الصادقة النبيلة ولا يعترض سبيلها.

الاعتداء أليم لا يحتمله الحر الكريم، ولا يصطبر عليه، فإذا اعتدى عليه ثارت نفسه تطلب الانتقام؛ وهذه عاطفة فطرية لا سبيل إلى دفعها، أو الخروج عليها. وفي الاستخذاء للعدوان مذلة وهوان، لا تحتملها نفس الكريم الأبي. اعترف الإسلام بهذه العاطفة وأذن للإنسان أن يستجيب لها في حدود العدالة فقال تعالى ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِ ينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِك َ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُون َ النَّاسَ وَيَبْغُون َ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 40 - 43].
أجل؛ أتاح الله للموتور أن يثأر، ولمن اعتدى عليه أن ينتقم، ولكن على أن يثأر وينتقم بمثل ما مسه لا يزيد عليه. ولا يطيع عاطفة الانتقام؛ فتدفعه إلى الإمعان في الأذى، والخروج عن حدود العدالة. ثم دعا الإنسان إلى فضيلة من الفضائل الإنسانية لم يفرضها عليه فرضا؛ ولم يحتمها عليه تحتيما، ولم يرتفع بها إلى درجة الوجوب، بل جعلها نافلة من نوافل الخير. إن أخذ بها أثيب، وإن لم يأخذ بها فلا إثم عليه. تلك الفضيلة النبيلة هي العفو عن المسيء مع القدرة عليه. علم الله أن في هذا العفو تضحية بعاطفة قوية دافعة دافقة لا يقاومها إلا القوي العزوم، ولا يقوم لها إلا الصبور ذو الأيد. وإذا كانت هذه التضحية لله وفي سبيله فلا جرم أنه تعالى يثيب من يفعلها، ويعظم له الأجر على أن يكون العفو مقرونا إلى الإصلاح، وأخصه إصلاح نفس المعتدي وإشعاره بأن هذا العفو لم يكن عجزاً عن الانتقام، ولا مذلة ولا مهانة ولا رضا بالخسف، ولا إقراراً بالضيم، ولكن ابتغاء مرضاة الله، ورغبة في حسن مثوبته، فإذا صلحت نفس المعتدي لم يعاود العدوان، واستقامت الأمور؛ وانتظمت الأحوال. فالله تعالى لا يدعو إلى العفو المجرد، يذهب فيه الموتور ضحية واتره؛ ويتمرد معه الأئمة الأشرار المعتدون. إنه لا يحب الظالمين، ولا ييسر لهم سبل الظلم بدعوة الناس إلى العفو المطلق لأن ذلك يطيل ارسان بغيهم، ويمد في حبال عدوانهم. وقال تعالى ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِك َ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُون َ النَّاسَ وَيَبْغُون َ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الشورى: 41 ،42]. وقد أخذ الله بهذا الأدب الأمم كما أخذ الأفراد قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُو ا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُو ا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِ ينَ ﴾ [البقرة: 194] وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُم ْ فَعَاقِبُو ا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم ْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِر ِينَ ﴾ وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَ نَّهُ اللَّهُ ﴾ [الحج: 60]. فأين من هذا التشريع العادل الذي لا يصادم عواطف النفس، ولا يعترض ميلها الطبعي من تشريع يقول "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر". لعل ذلك التشريع كان موائما للأمة[2] التي شرع لها، لأنه شرع لأمة كانت مغلوبة على أمرها، يحكمها عدو عنيد، لا قبل لها بمقاومته؛ كان يسومها الخسف، ويديِّثها بالصغار. فماذا عسى أن يكون مصير الفرد من هذه الأمة المغلوبة لو لطمه أحد أفراد الدولة الغالبة؛ فقاومه، وناضل عن نفسه؟ ألم يكن جزاؤه القتل الذريع، وإهدار الدم. لذلك لم يكن بد أن يعلمهم الله وسيلة ينجون بها من شر أولئك المتجبرين المتغطرسين ولا أحسن من الاستسلام بين يدي من لا تقدر عليه، ولا تستطيع إلى مقاومته سبيلا. ولكن الإسلام شريعة الأمة الحرة الأبية التي تأبى الضيم وتأنف الذلة والمهانة، ولا ترضى بالاستعباد وقد ولدت حرة كريمة. انبثق فيها نوره وعم الخافقين ضياؤه، ونبتت فيها شجرته الفرعاء الوارفة الظلال، فتفيأ في ظلالها أهل المشرق والمغرب، وجنى ثمارها كل قاص ودان. فيا لله ما أجمل هذه الشريعة وما أعذب مواردها، وما أصفى مناهلها؛ وما أقربها إلى العقل والقلب جميعا. جعلنا الله من المستنيرين بنورها، والواقفين على أسرارها، العاملين بها، الداعين إلى الاعتصام بحبلها آمين.
[1] كان ذلك يوم كان يضرب المثل بخفر العذراء وحيائها، أما اليوم فقد ذهب الحياء، ومضى الخجل إلى مكان سحيق بل إلى حيث لا يعرف له مقر؛ وأصبحنا في عصر قل فيه الحياء لقلة الإيمان؛ وتسرب الخجل من وجوه الفتيات قطرة قطرة وصارت البكر أجسر على الق*** والرفض؛ والحديث في شأن الزواج؛ والمفاضلة بين الشبان: من الثيب، بل من الشاب بل من الكهل المزواج. والحياء والعفة متلازمان إذا ذهب أحدهما ذهب الآخر بذهابه. فسلام عليه الحياء وسلام على العفاف (الكاتب).
[2] شرع ذلك للأمة الإسرائيلي ة يوم كانت خاضعة لحكم الرومان في سورية.





الشيخ أبو الوفاء محمد درويش