السؤال

ملخص السؤال:
فتاة حياتُها معقَّدة، تُوفي والدُها وهي صغيرةٌ وتعيش حياة مضطربةً، أدتْ إلى إصابتِها بعدة أمراض نفسيةٍ، في حين تخلى عنها أهلُ والدتها ووالدها.
تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد وفاة أبي انتقلنا مِن المدينة إلى محافظة للعيش مع أهل أمي، حتى يهتموا باحتياجاتن ا، وكان وقتها عمري 12 عامًا، كانتْ حياتي شبه مستقرَّةٍ وقتها، وأكملتُ دراستي. كانتْ تنقصني أشياء بحُكم أن والدي متوَفّى، ولي إخوة صغار، وفي ظلِّ غياب أهل أبي وأمي الذين تخلَّوْا عنا في أشد الأوقات التي كنَّا نحتاجهم فيها، أصابَنا الاكتئابُ لقلة المال ولكثرةِ المشكلات بين أمي وإخوتي، استمرَّتْ هذه المشكلات عدة سنوات، وما زال بعضُ آثارها موجودًا. أكملتُ دراستي حتى أنهيتُ الثانوية ودخلتُ الجامعة، وأصْرَرْتُ على دخول جامعة كبيرةٍ على الرغم مِن رفْضِ أمي لذلك، ولكني تعبتُ نفسيًّا بعدما التحقت بالجامعة؛ بسبب ضغوط السفر اليومي مِن الصباح إلى المساء. تعبتُ كثيرًا، وأعيش كأني ميتة، والحمدُ لله على كل حال، أشعر دائمًا بالنقْص، والفترة التي كنتُ فيها في الجامعة كانتْ مِن أسوأ الفترات، كنتُ أبكي يوميًّا، ضغطتُ على نفسي كثيرًا لأكملَ الدراسة، لكني لم أستَطِعْ! جلستُ مع أمي، وأخبرتُها أني أريد الذهاب لطبيبٍ نفسيٍّ، وبالفِعل ذهبتُ إلى الطبيب، وأخبرني أن لديَّ اكتئابًا حادًّا وخوفًا ورهابًا، وأعطاني أدوية، لكني لم أستمرَّ في المتابَعة بسبب قلة المال. ازدادتْ حالتي سوءًا، ولم أستَطِعْ أن أعيشَ مثلَ بقية الناس، وازداد الخوفُ لديَّ، وكذلك الانطوائيّ َةُ والوحدة! تركتُ الجامعة، ولم أستطع العودة إليها مرة أخرى، وحاولتُ تسْويةَ وضعي في الجامعة، لكني فشلتُ.
أحس بضياعٍ وخوفٍ مِن المستقبل، وزاد على ذلك كله النسيانُ، فإني أنسى بشكلٍ كبير جدًّا، أريد أن أعودَ كما كنتُ، فأخبروني كيف أستعيد نفسي، وأكون أفضل؟!
الجواب
عزيزتي، أهلًا بك في شبكة الألوكة، وسعيدة لتواصُلك معنا.
بنيتي، لا شك أنك تعرَّضْتِ لضُغوطٍ كثيرةٍ ومتعدِّدةٍ ، لكنك أثْبَتِّ عدة مرات أنك قوية وصلبة، ولا تستسلمين، وهذه سِمَةُ الناجحين!

إنَّ غايةَ وحلمَ كثيرٍ مِن الناس أن يعيشَ حياةً لا وُجودَ فيها للمُنَغِّص ات النفسية والاجتماعي ة، أو مُنَغِّصات الحياة بشكل عامّ، لكن اقتضتْ حكمةُ الله أن تكونَ الحياةُ الدنيا مُشتملةً على الخوف والقلَق، والجوع والفقرِ، والمرض والموت؛ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُ وَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَا لِ وَالْأَنْف ُسِ وَالثَّمَر َاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِ ينَ ﴾ [البقرة: 155].

ولم يخرجْ مِن قانون الابتلاء أنبياءُ الله وأولياؤُه، بل نالهم مِن البلاءِ النصيبُ الأوفى؛ ((أشد الناس بلاءً الأنبياء؛ ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه))؛ رواه الترمذيُّ.

وقد سُئِل الشافعيُّ - رحمه الله - أيما أفضل للرجل: أن يُمَكَّن أو يُبْتَلى؟

فقال الشافعيُّ: لا يُمَكَّن حتى يُبْتَلى؛ فإنَّ الله ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمدًا - صلواتُ الله وسلامه عليهم - فلما صبروا مكَّنَهُم؛ فالبلاءُ سبيلُ التمكين، ومُواجَهة الكُروب سبيلُ ارتقاء المعارِف، واكتسابِ حكمة التعامُل مع الحياة.

فأنتِ مأجورةٌ - بإذن الله - لكن هذا لا يعني الاستسلام للظُّروف، والبُكاء والمرَض، والتناسي أو النسيان!

كل ما هنالك أن عليك التفريقَ بين دائرة الهُموم ودائرة الاهتمام؛ لتَتَمَكَّ ني مِن فَتْحِ أبواب أمل جديدة، تسير بك للسعادة - بإذن الله.

"دائرة الهموم" تتكاثَر وتكبُر لتُصبحَ مجموعةً مِن الهموم التي تَعوقنا عن النظَر لغيرها، لكنك لو دقَّقْتِ النظَر ستجدين أنها كبرتْ بسبب نظَرك لها طوال الوقت، لدرجةٍ جعلتْك عاجزةً عنْ تغييرها؛ والمشكلةُ أن هذا التفكير سيُشعرك بالعجْزِ عنْ ممارَسة الأشياء الأخرى التي أنت قادرة عليها.

أريدك أن تكتبي في ورقةٍ كلَّ الأشياء التي حباك الله بها، بدءًا مِن الإيمان بالله، والصحة والعافية، إلى الذكاء الذي ساقك لاستشارة المختَصِّي ن؛ وبعدها تفَقَّدِي ميزاتك وطوِّريها، ونحن - بحمد الله - في عصر التقنية، ونستطيع أن نجلبَ العالم إلينا إن لم نقدرْ على الذَّهاب له.

حاولي التعلُّم والدراسة ومتابَعة الناجحين، وتتبُّع خُطاهم، وضَعي في بالك أنك أنت مَن سيُنقذ أسرتك مِن وضْعِها، وأنك ستكونين رمزَ الفخار لهم؛ سواء بعلمٍ، أو بحفظٍ، أو بتدارُس للقرآن والسنة، أو حتى بتجارةٍ تُمارسينها مِن بيتك وعبر جهازك، فأنتِ بالتأكيد تمتلكين العديدَ والعديد مِن المواهب، طوِّريها ونمّيها، وانطلقي من خلالها.

ولأضرب لك بعض الأمثلة التي ربما تَفْتَح لك آفاقَ التفكير، وتكبِّر لك دائرة التأثير التي تملكينها؛ مثلًا: الدراسة ادرسي عن بُعْدٍ، وتواصلي مع جامعتك أيضًا عبر الإيميل، وهكذا.. فمَن لا تستطيعين الذهاب له أحضريه بواسطة عالم التقنية، الذي أنعم الله به علينا.

فإذا كنتِ مثلًا تُتقنين طبْخَ كعك أو فطائر، أو حتى تجيدين الرسم أو التطريز، فنقِّبي عن قدراتك وطوِّريها، وتاجري أو تدرَّبي على ما تُتقنينه أيضًا عبر متجرٍ إلكترونيٍّ .

المهم لا تستسلمي، وأكْثِري مِن الحمد على ما حباكِ الله به، ليكبرَ ويزيد؛ ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَن َّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وأديمي التأمُّل لتكتشفي مواهبك.

وللعلم فإن 99% من الناجحين والمُؤَثِّ رين في الحياة والأغنياء كانتْ بدايتُهم صعبةً جدًّا، وتحت خط الفقر في الغالب.

وفَّقك الله عزيزتي، ويَسَّر أمرَك

وتذكري: ما دام الله ُمعك فإن معكِ كلَّ شيءٍ، فلا تَيْئَسي أبدًا