لماذا غض البصر؟


لا شك أن إطلاق البصر سبب لأعظم الفتن؛ فكم فسد بسبب النظر من عابد! وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين! وكم وقع بسببه أناس في الزنا والفاحشة!
فالعين مرآة القلب، فإذا غضَّ العبد بصره غضَّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصَره أطلق القلب شهوته وإرادته، ونقش فيه صور تلك المُبصِرات ، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة.
فالإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تُستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يُروى، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري... كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون، وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيَّد بقيد، وإما الأمراض العصبية والنفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة، وهي تكاد تكون عملية تعذيب.
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي: الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليمًا بقوته الطبيعية دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
وغض البصر "أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطِّلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم"[1].
وما أحسن قول الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار مِن مُستصغَر الشررِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتكَ السهام بلا قوس ولا وتر؟!
والعبد ما دام ذا عين يُقلِّبها
في أعين الغِيد موقوف على خطَرِ
وما أحسن قولَه أيضًا:
وغض عن المحارم منك طرفًا
طموحًا يَفتِن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأُسدِ غابٍ
إذا ما أُهملت وثبَتْ وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها
يجد في قلبه روحًا وطيبا

فوائد غض البصر[2]: أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة؛ فإنَّ مَن أطلق نظره دامت حسرته، فأضرُّ شيء على القلب إرسالُ البصر؛ فإنه يُريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
الفائدة الثانية: إنه يورث القلب نورًا وإشراقًا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَ اتِ وَالْأَرْض ِ ﴾ [النور: 35]، عقيب قوله: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِ نِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِه ِمْ ﴾ [النور: 30].
الفائدة الثالثة: إنه يورث صحة الفراسة؛ فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحَّت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة، تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها، فإذا أطلق العبد نظرةً تنفست نفسُه الصُّعَداء في مرآة قلبه، فطمست نورها.
الفائدة الرابعة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، ولهذا يوجد في المتبِع لهواه من ذلِّ القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله ممن آثر هواه على رضاه، قال الحسن: "إنهم وإن هملجَت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين، إن ذلَّ المعصية لفي قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يذلَّ من عصاه".
الفائدة الخامسة: إنه يورث القلب سرورًا وفرحة وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر؛ وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.
وأيضًا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء، أعاضه الله سبحانه مسرة ولذةً أكمل منها؛ كما قال بعضهم: والله للذة العفَّة أعظم من لذة الذنب.
الفائدة السادسة: إنه يُخلِّص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، فهو كما قيل: طليق برأي العين وهو أسير، ومتى أَسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب، وصار كما قال القائل:
كعصفورة في كفِّ طفل يَسومها
حياض الرَّدى والطفل يَلهو ***عب
الفائدة السابعة: إنه يسد عنه بابًا من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مُواقَعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجابٌ مانع من الوصول، فمتى هتك الحجاب وقع في المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها؛ وذلك أن لذتها في الشيء الجديد، فغض البصر يسدُّ عنه هذا الباب.
لماذا غض البصر؟ 1 - تنفيذ أوامر الله - عز وجل -: قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِ نِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِه ِمْ وَيَحْفَظُ وا فُرُوجَهُم ْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون َ ﴾ [النور: 30].
وهذه الآية اشتملت على ثلاثة معانٍ: تأديب، وتنبيه، وتهديد.
أما التأديب فقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِ نِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِه ِمْ... ﴾، ولا بد للعبد من امتِثال أوامر ربه والتأدب معه، وإلا كان سيئ الأدب.
وأما التنبيه فقوله: ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ... ﴾ فالزكاة هي الطهارة والزيادة؛ لأن غضَّ البصر يزيد طهارة القلب فيزداد العبد من الطاعات.
وأما التهديد فقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون َ ﴾ قيل لأحد الصالحين: كيف أغض بصري؟ قال: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه.
2 - استجابةً لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا علي لا تُتبع النظرةَ النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة))[3].
وعن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: قال جرير: "سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري[4]".
3 - ضمان دخول الجنة؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمَنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدُقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفوا أيديكم))[5].
4 - تجنُّب الوقوع في الزنا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يَهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرجُ ويكذبه))[6].
5 - لأن النظر خطر على استقرار الفكر: يقول الدكتور القرضاوي: "إن النظر المتلذِّذ الجائع ليس خطرًا على خلُق العفاف فحسب، بل خطر على استقرار الفكر وطمأنينة القلب الذي يُصاب بالشرود والاضطراب"[7].
المعينات على غضِّ البصر[8]: 1- شغل النفس بالحق؛ فالنفس لا تمل السعي والحركة والطلب والعمل، فإن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وإن لم تحلِّق بها في معالي الأمور انحدرت بك إلى سفاسفها، ومن أجل ذلك كره سيدنا عمر رضي الله عنه الفراغ باعتباره نزلة إلى المذلة، وهاوية إلى الهوى فقال: "إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة".
2 - كثرة الصيام: ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))[9].
3 - مراقبة الله - عز وجل - والخوف منه؛ قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُن ِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيُريهم أنه يغضُّ بصره عنها، فإن رأى منهم غفلةً نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غضَّ بصره، وقد اطَّلع الله - عز وجل - من قلبه أنه نظر إليها"[10].
4 - المقارنة بين العاجل والآجل: كان عند ذي النون فتًى حسن يُملي عليه شيئًا، فمرت امرأة ذات حسن وجمال وخلُق فجعل الفتى يُسارق النظر إليها، ففطن ذو النون فلوى عنق الفتى وأنشأ يقول:
دعِ المَصوغات من ماء ومِن طينِ
واشغل هواك بحورٍ خرَّدٍ عِينِ
5 - البعد عن المثيرات: ابتعد عن كل ما يُثير، ولا تعذب نفسك، فكل مكان أو شيء يُغري بعدم غض البصر والنظر إلى الحرام فيجب الابتعاد عنه قدر الاستطاعة؛ مثل: البعد عن رفقاء السوء الذين يُزيِّنون المعصية، ومقاطعة ما يُغضب الله تعالى من مجون وخلاعة، سواء في الإنترنت أو التلفاز أو غيره من المجلات والصحف.
6 - ومن المعينات أيضًا باختصار: ممارسة الرياضة لتفريغ الطاقة، وقضاء الأوقات في النافع؛ مثل: حفظ القرآن، ومطالعة الكتب المفيدة، واصطحاب المصحف في المواصلات وأماكن الانتظار.
وفي النهاية: لما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرَّم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حرِّم تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة، كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلةً إلى التشبيه بالكفار في سجودهم للشمس، أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة، وفعل ذوات الأسباب على الصحيح.

[1] انظر: تفسير الظلال؛ سيد قطب.

[2] روضة المحبين؛ ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية - بيروت، 1412 - 1992.

[3] رواه أبو داود، قال الشيخ الألباني: حسن.

[4] رواه ابن حبان، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

[5] رواه أحمد، تعليق شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات.

[6] رواه مسلم، باب: قدِّر على ابن ادم حظه من الزنا.

[7] الحلال والحرام؛ للدكتور القرضاوي.

[8] في رحاب الإسلام؛ حسام حميدة، الجزء الأول، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

[9] رواه البخاري ومسلم.

[10] فتح القدير؛ للإمام الشوكاني.