قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِك ُمْ لَا تَظْلِمُون َ وَلَا تُظْلَمُون َ ﴾ [البقرة: 278 - 279].
لَمَّا أمر الله تعالى المؤمنين بالإنفاق من طيِّبات ما كسبوا، وحض على الصدقة، ورغب في الإنفاق في سبيل الله، ذكر هنا ما يُقابِل ذلك، وهو الربا الخبيث، الذي هو شح وقذارة ودنس، وأكل أموال الناس بالباطل، بينما الصدقة عطاء وسماحة وطهارة. وقد جاء عرضه مباشرةً بعد عرض ذلك الوجه الطيِّب من الإنفاق في سبيل الله؛ ليظهر الفارق بين الكسب الطيب والكسب الخبيث، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء. وبيَّن هنا أن الربا غير البيع، فإن البيع حلال والربا حرام، وأن الذي يأكل الربا يتخبط في عشوائه ويتخبَّطه الشيطان إذا مسه[1]، ثم بيَّن أنه سبحانه يمحق[2] الربا، ولكنه يُربِي الصدقات؛ أي: يزيد بها الأموال ويُنمِّيها ، وأنه إذا تعامل بالربا وتاب، فلا يأخذ إلا رأس المال دون زيادة ولو قليلة. ونهى في آية أخرى سبحانه قائلاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة ً ﴾ [آل عمران: 130]، وسيأتي شرحها بالتفصيل في موضعها إن شاء الله تعالى عند تفسير النداء الخامس عشر، ففي آية البقرة نادى الله - عز وجل - المؤمنين ونهاهم أن يتعاملوا بالربا؛ لِمَا له من عاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾. سبب نزول الآية الكريمة: أنه كان لبني عمرو من ثقيف ديون ربا على بني المغيرة، فلما حلَّ الأجل أرادوا أن يتقاضوا الربا منهم، فنزلت الآية، فقالت ثقيف: لا يد لنا - أي: لا طاقة لنا - بحرب الله ورسوله، وتابوا وأخذوا رؤوس أموالهم فقط[3]. الربا لغةً: الزيادة، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَ ا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ [الحج: 5]؛ أي: زادت. والربا: الزيادة على رأس المال، لكن خصَّ في الشرع على وجه دون وجه، وباعتبار الزيادة، قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الروم: 39]. ونبه بقوله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَا تِ ﴾ [البقرة: 276] أن الزيادة المعقولة المعبَّر عنها بالبركة مرتفعة عن الربا؛ ولذلك قال في مقابلته: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِك َ هُمُ الْمُضْعِف ُونَ ﴾ [الروم: 39][4]. ويجدر أن نبدأ في معنى الآية بَدْءًا من قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُون َ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّط ُهُ الشَّيْطَا نُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ لأنها وما تلاها من الآيات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمعنى قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 278]. فقوله تعالى: ﴿ يَأْكُلُون َ الرِّبَا ﴾؛ يأخذونه ويتصرَّفون فيه بالأكل في بطونهم وبغير الأكل، والربا هنا ربا النسيئة، وحقيقته أن يكون لك على المرء دَين، فإذا حل أجلُه ولم يقدر على تسديده، تقول له: أخِّر وزد، فتؤخره أجلاً وتزيد في رأس المال قدرًا معينًا، هذا هو ربا الجاهلية، والعمل به اليوم في البنوك الربوية، فيُسلِفون المرء مبلغًا إلى أجل، ويزيدون قدرًا آخر نحو العُشْر أو أكثر أو أقل. والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وسواء كان ربا فضل[5] أو ربا نسيئة. ﴿ لَا يَقُومُونَ ﴾؛ أي: من قبورهم يوم القيامة. ﴿ يَتَخَبَّط ُهُ الشَّيْطَا نُ ﴾: يضربه الشيطان ضربًا غير منتظم. ﴿ مِنَ الْمَسِّ ﴾: الجنون. ﴿ مَوْعِظَةٌ ﴾: أمر ونهي بترك الربا. ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾: ليس عليه أن يرد الأموال التي سبقت توبته. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾؛ أي: يذهب شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى منه شيء. ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَا تِ ﴾: يبارك في المال الذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافًا كثيرة. ﴿ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾: الكَفَّار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير. ﴿ أَثِيمٍ ﴾: منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها، فلما حث الله على الصدقات وواعد عليها بعظم الأجر ومضاعفة الثواب، ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا، وهم بذلك يسدون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف، فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون ويصرعون حالهم حال مَن يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يُعرفون بها يوم القيامة كما يُعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنهم خيمة مضروبة بين أيديهم، وهذا الذي أصابهم من الخزي والعذاب بسبب ردِّهم حكم الله بتحريم الربا، وقالوا: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]؛ إذ الربا الزيادة في نهاية الأجل والبيع في أوله، فقال: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، فما دام قد حرم الربا، فلا معنى للاعتراض، ونسوا أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص، وهي جارية على قانون الإذن في التجارة، وأما الزيادة في آخر البيع، فهي زيادة في الوقت فقط. ثم قال تعالى مبينًا لعباده سبيل النجاة، محذرًا من طريق الهلاك: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه، فمن انتهى فله ما سلف قبل معرفته للتحريم أو قبل توبته، وأمرُه بعد ذلك إلى الله إن شاء ثبته على التوبة ونجاه، وإن شاء خذله لسوء عمله وفساد نيته فأهلكه وأرداه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]. وبمناسبة ذكر عقوبة آكلي الربا، نادى الله تعالى عباده المؤمنين آمرًا إياهم بتقواه تعالى، وذلك بطاعته وترك معصيته، وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملات الربوية، مذكرًا إياهم بإيمانهم؛ إذ من شأن المؤمن الاستجابة لنداء ربه، وفعل ما يأمره وترك ما ينهاه عنه، ثم هدد المتباطئين بقوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ِ ﴾ [البقرة: 279]، فأُعلِموا بحرب قاسية ضروس من الله ورسوله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهدَيْه وكاتبه، هم فيه سواء))[6]، واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى. ثم بيَّن لهم طريق التوبة وسبيل الخلاص من محنة الربا وفتنته بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ بترك الربا ﴿ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِك ُمْ ﴾ لا غير، دون زيادة ولا نقصان، وإن وجد مَدِين لكم في حالة إعسار، فالواجب انتظاره إلى ميسرة[7]. وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدَّقوا بالتنازل عن ديونكم كلها؛ تطهيرًا لأموالكم التي لامسها الربا، وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة. ثم ذكَّر الله تعالى سائر عباده بيوم القيامة، وما فيه من أهوال ومواقف صعبة؛ حيث يتم الحساب الدقيق، وتُجزَى كل نفس، مؤمنة أو كافرة، بارة أو فاجرة - ما كسبته من خير وشر، وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم، فقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُون َ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون َ ﴾ [البقرة: 281]، وهذا التوجيه الذي حملته الآية آخر توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى؛ إذ هي آخر ما نزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم[8]. هداية الآيتين الكريمتين: 1- وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي. 2- المصرُّ على المعاملات الربوية يجب على الحاكم أن يحاربه بالضرب على يده حتى يترك الربا. 3- مَن تاب من الربا لا يُظلم بالأخذ من رأس ماله، بل يعطاه وافيًا كاملاً، إلا أن يتصدق بالتنازل عن ديونه الربوية، فذلك خير له حالاً ومآلاً. 4- وجوب ذكر الآخرة والاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح، وترك الربا والمعاصي[9]. فوائد فقهية من كتاب "تيسير العلام، شرح عمدة الأحكام": 1- يحرم بيع الذهب بالفضة والعكس، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد، وهذه هي المصارفة، ويراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء كانا جالسين، أو ماشيين، أو راكبين، ويراد بالتفرق ما يُعَد تفرقًا عُرفيًّا بين الناس. 2- يحرم بيع البُر بالبُر، أو الشعير بالشعير، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد. 3- قال في المغني: "فالحا صل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه ربا كالأرز، وما يعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه، فلا ربا، وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتين والنوى، وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل والوزن من جنس واحد، ففيه ر****ان، واختلف أهل العلم، والأَولى إن شاء الله حِله؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يُقوِّي التمسك به. 4- يحرم ربا الفضل بالتمر، بأن يباع بعضه ببعض وأحدهما أكثر من الآخر؛ كتمر رديء بآخر جيد، ولكن يبيع التمر الرديء ثم يقبض ثمنه ثم يشترى آخر[10]. الترهيب من أكل الربا: قال صلى الله عليه وسلم: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية))[11]. وقال: ((اجتنِبوا السبع الموبقات[12]))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف[13]، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))[14].

[1] المس: الجنون، وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيحصل له الجنون.
[2] المحق: نقصان الشيء حالاً بعد حال.
[3] صفوة التفاسير - الصابوني.
[4] المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني.
[5] ربا الفضل بيانه في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفِضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالمِلح، مثلاً بمثل، يدًا بيد، فمَن استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء))، وقال: ((فإذا اختلفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)).
[6] أيسر التفاسير، الجزائري ج1ص149.
[7] قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أنظر معسرًا، أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله))؛ رواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة. وقال: ((مَن أنظر معسرًا، فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدَّين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة))؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والحاكم عن بريدة.
[8] أيسر التفاسير - الجزائري ج1ص150.
[9] أيسر التفاسير - الجزائري ج1ص150.
[10] تيسير العلام - البسام، ج1ص646.
[11] رواه أحمد والطبراني رحمهما الله تعالى، عن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه، صحيح الجامع رقم 3375.
[12] الموبقات: أي المهلِكات التي توبق صاحبها في النار؛ أي: توقعه وتهلكه.

[13] التولي يوم الزحف: أي التولي وقت لقاء الجيش للكفار فرارًا.

[14] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.