البناء والتربية منهجُ النبي صلى الله عليه وسلم

وأساس الدعوة والتغيير

التربية تعني لنا التكوين والإعداد لتنمية القدرات والملكات والاتِّجاه ات الصحيحة لبناء الفرد والمجتمع، وَفْقَ منهج الإسلام، ولإيجاد الجيل المسلم، الذي يحاكي ويقارب جيلَ الصحابة والسلف والتابعين من بعدهم بإحسان.
ولا يكون هذا التكوين والإعداد إلاَّ من خلالِ بناء العقيدة السليمة في النفوس، والعبادة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة الكريمة، كما كان الأمر أَوَّلَ دعوة الإسلام الراشدة.
فالتربيةُ إذًا الخطوة الأساسية لبناء مجتمع إسلامي، وإعادة خلافة الإسلام إلى سُلطان السيادة والحكم على منهاج النُّبوة الراشدة.
وإذا تأمَّلنا - أيها الشباب - في سيرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر لنا هذا جليًّا واضحًا، فرسولُ الله ما قام في أولِ دَعوته ليتسلمَ مَفاتيح القيادة والحكم والتغيير بين قومه وعشريته، كلاَّ، إنَّما قام داعيًا ومربيًا، ومُعلمًا وهاديًا، يدعو إلى عبادة الله - تعالى - دونما سواه من المخلوقات والمعبودات الباطلة، ويربي أهلَ الإيمان والاستجابة على منهج الله - تعالى - وشريعته، حتى اكتملَ له البناء، وتَمَّ لهم التمكين الموعود، والنَّصر المنشود، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَ اكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّر ًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِن ِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 47].
فرسالةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيِّنَةٌ واضحة، قامتْ على بناءِ الدَّعوة والهداية، والبشارة والنذارة؛ قال السعدي - رحمه الله -: "كونه ﴿ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: أرسله اللَّه، يدعو الخلق إلى ربِّهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمُرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامَتَه على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم بربهم بصفاتِه المُقَدَّس ة، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللَّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللَّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يَعْرِض ذلك لكثير من النُّفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله - تعالى - له في الدَّعوة وأمره وإرادته وقَدَره"[1].
وقال شيخ المفسرين الطبري - رحمه الله -: "وقوله : ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾ يقول: وداعيًا إلى توحيدِ الله، وإفراد الألوهية له، وإخلاص الطاعة لوجهه دون كل مَن سواه من الآلهة والأوثان"[2].
وقال البيضاوي - رحمه الله -: "﴿ وَدَاعِيًا إِلَى الله ﴾ إلى الإِقرار به وبتوحيده، وما يجب الإِيمان به من صفاته"[3].
وقال ابنُ الجوزي - رحمه الله - في "زاد المسير": "﴿ وداعيًا إِلى الله ﴾؛ أي: إِلى توحيده وطاعته"[4].
إذًا فالدَّعوة إلى الله - تعالى - والصبر عليها منهجٌ نبوي رشيد، يهدفُ لبناء وتربية النفس البشريَّة على القيام بواجبات الله - تعالى - وفرائضه، وأحكامِه وشرائعه، وتقديم العمل الصالح بين يدي الإيمان بالله ورسوله، فكان الظفر والتمكين، كما قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَ اتِ لَيَسْتَخْ لِفَنَّهُم ْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَف َ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّ ِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّ ِلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُون َنِي لاَ يُشْرِكُون َ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِك َ هُمُ الْفَاسِقُ ونَ * وَأَقِيمُو ا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُو ا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم ْ تُرْحَمُون َ ﴾ [النور: 55 - 56].
واعلموا - أيُّها الشباب - أنَّه قد عُرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - الملك والسلطان، والمال والسيادة أولَ أمرِه ودعوته، لكنَّه أعرض عن كل هذا، واتَّجه نحو البناء والتغيير للنفس البشريَّة مباشرة، دون تدخُّلِ واسطةٍ ليس لها في النفس شأن ولا بُنيان، وصمد حتى أُذِنَ له بالهجرة المباركة إلى المدينة، فكانت هناك السيادة والملك والسلطان، ولكن بأهلِ العقيدة الراسخة، والأنفس الزَّكية الطاهِرة، التي أرادَتِ الحقَّ، وبذلتْ له أرواحَها وأموالَها، وكل ما لديها من مقومات الحياة.
وقد روى الإمامُ عبد بن حميد في - مسنده - بسنده عن جابر بن عبدالله قال: "اجتمع تْ قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشِّعر، فليأتِ هذا الرجل الذي فرَّق جماعَتَنا، وشَتَّت أمرَنا، وعاب دينَنا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: إن كنتَ تزعُم أنَّ هؤلاء خيرٌ منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبتَ، وإن كنت تزعُم أنَّك خير منهم، فتكلم حتى نسمعَ قولك، إنَّا والله ما رأينا سَخْلَةً قَطُّ أشأم على قومك منك، فرَّقْتَ جماعَتَنا، وشتَّتَّ أمرَنا، وعبت دينَنا، وفضحْتَنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أنَّ في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلاَّ مثل صيحة الحُبلى أنْ يقومَ بعضنا إلى بعضٍ بالسيوف حتى نتفانى.
أيُّها الرجل، إنْ كان إنَّما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا، وإن كان إنَّما بك الباءة، فاخترْ أيَّ نساء قريش شئتَ، فلنُزوجك عشرًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فرغت؟))، قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون َ ﴾ إلى أن بلغ: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُ كُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 1 - 13]".
فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا))، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنَّكم تكلمونه إلاَّ كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نصبها بينة، ما فهمت شيئًا مما قال غير أنَّه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود".
قال الألباني - رحمه الله - في صحيحِ السيرة النبوية: "وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به، وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنَّما بك الرياسة، عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسًا ما بقيت، وعنده أنَّه لما قال: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُ كُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكفَّ عنه، ولَم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم"[5].
هذا ما فعله رسولُ الله مع عُتبة ومع قريش، في سبيلِ ردِّ تلك الإغراءات الدَّنيئة، والعروض الرخيصة لتركِ الرِّسالة والدعوة والتوحيد، إلاَّ أنَّ رسولَ الله ما أجاب إلا بالقرآن المنزل، والقول الفصل، الذي لا مراءَ فيه ولا هزْل، فكان الجواب القاصم لأهل الكفر والشرك.
فلا سبيلَ إذًا إلى حقيقةِ الإصلاح والنُّهوض - اليومَ - في كلِّ مَجالات الحياة الإسلامية وصُورها، إلاَّ أن تقومَ جماعة - أعني: فريقًا من الأمة بالمعنى الشرعي - تَحمل على عَاتِقها أمانة العودة والتغيير والإصلاح على منهاجِ النُّبوة الأول، ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بالأصْل الأصيل، والطريق القويم - الدعوة إلى الله تعالى - على منْهج السلَف الصالح، مع كمال الاستِقامة عليه؛ ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُ ونَ بِالْمَعْر ُوفِ وَيَنْهَوْ نَ عَنِ الْمُنْكَر ِ وَأُولَئِك َ هُمُ الْمُفْلِح ُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
والواقف بعَيْن البصيرة مع السيرة النبويَّة المباركة يتجلَّى له بوُضُوح هذه الحقيقة الكبيرة، حقيقة إقامة الحياة الإسلامية بمنْهج الدَّعْوة إلى الله تعالى.
فبَعْثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانتْ في جزيرة العرب، التي حَلَّتْ بها كثيرٌ من البلايا والرَّزايا في الاعتقادات ِ والمعامَلا ت، والأخلاق والسلوكيات ، مع وجود بقايا لا تنكر من المروءة والأخلاق، لكنَّ حياتَهم ساد فيها صورٌ وألوان من الترَدِّي في العقل والمعتقد؛ مِمَّا جعلهم يعبدون حجرًا لا يسمع ولا يُبصر من دون الله - تعالى - بل وتعددت الآلهة بتعدُّد أصحابها، حتى سخروا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
وكذلك أكلهم الرِّبا، والظُّلم الاجتماعي، وانتشار الفواحش والمنكرات المعلَنة بلا حياءٍ أو خجل أو خوف مِن عقوبة، فاستلزم ذلك بَعثة ربانيَّة تُعيد البشريَّة إلى مَسارها، وتقوِّم ما اعْوَجَّ مِن دينها، وما فسد من أخلاقِها ومُعاملاتِ ها، وما انحرفت فيه بأفهامِها، فكانت دَعوةُ التغيير والإصلاح، ودعوة البناء والهداية، ودعوة الخير والرَّشاد - دعوةَ الإسلام؛ ﴿ وَبِالْحَق أَنْزَلْنَ اهُ وَبِالْحَق ِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَ اكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 105].
فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة، ورعيلها الأول من خيار الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ذلك باصطفاء مَن يدعوهم للإسلام، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي.
يقول أبو الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -: "لقد وضع محمد - صلى الله عليه وسلم -مِفتاحَ النبوة على قفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من كنوز، وعجائب، وقوى، ومواهب، أصاب الجاهليةَ في مقتلها أو صميمها، فأصمى رميتَه، وأرغم العالم العنيدَ بحول الله على أنْ ينحوَ نَحوًا جديدًا، ويفتتح عهدًا سعيدًا، ذلك هو العهد الإسلامي، الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ"[6].
فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعلنًا عبوديةَ الله - تعالى - وحْدَه من دون الآلهة الباطلة، وصبر وثبت وأوذي كثيرًا، وظلَّ في دَعوته ومَنهجه، يدعو الناس، ويعلم الناس، ويذكر الناس، حتى قامتْ دعوتُه خَيْرَ قيام على ثرى المدينة المنورة، وما شرع الجهاد في سبيل الله - تعالى - إلاَّ بعد هذا الميدان الكبير من الدَّعوة الخالصة، والصَّبْر على عنت أهْل الكُفر وضلالهم.
والمشككون في هذا الطريق اليومَ ليسوا على شيء؛ لأنَّ التاريخَ خيرُ شاهِد، والقرآن والسنة خيرُ دليل، والواقع الأليم اليومَ يُثْبِت كلَّ ذلك، فلا سبيلَ اليوم إلا طريق المصلحين السابقين من الأنبياء والمرسلين، وفي مُقَدِّمته م النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم.
وبعد هذا أقول لكم يا شباب الإسلام: يجب علينا إذًا - أيها الشباب - أنْ نَخوض الطريق من أوله، لا من آخره، وأن نسلكَ طريق التربية والبناء نحو تغيير واقعِ أُمَّتِنا اليوم وإصلاحها، وحسبكم في ذلك أنَّه طريقُ الأنبياء والمرسلين، والدُّعاة والمصلحين، وحسبكم أنَّه الطريقُ الأوحد، الذي سلكه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ دعوته، وبناء أمته، وإقامة دولته.
وهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يرسم الطريق لأصحابه - رضي الله عنهم - أيضًا، ويخط لهم معالِمَه، ويُؤصِّل لهم منهاجه، كما جاء في الحديث عن معاذ وابن عباس - رضي الله عنهما -: ((إنَّك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ اللهَ قد فرض عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يوم وليلة، فإنْ هُم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخَذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فإيَّاك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))؛ [رواه النسائي والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع": 2296].
فالواجبُ علينا بعد هذا أنْ نسلُكَ مسلك التربية والبناء لأنفسنا، وأن يكونَ لدينا منهجٌ عمليٌّ صحيح، نأخذ به، ونسترشد بأصولِه ومَعالِمه، ونسير عليه حتى يأذنَ الله - تعالى - لنا بفجر من التمكين الموعود؛ لتَحقيقِ العبودية له وَحْدَه - سبحانه -: ﴿ وَلَيُمَكّ ِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّ ِلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُون َنِي لَا يُشْرِكُون َ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].