إن الإسلام بمفهومهم الصحيح أشمل مما يصور بعض المسلمين فضلا عن غيرهم، وأعمق مما يظنون، و ما جاء الإسلام لطقطقة المسابح ولا لإقامة المذابح، وما جاء الإسلام ليجعل من أتباعه أو دعاته يسبحون بحمد السادة والقادة، لقد جاء الإسلام ليصبغ الأرض بصبغة الله، فتنشأ فيها خلافة الله الربانية، ويني فيها عمارة على مقتضى المنهج الرباني الحكيم، وكان لا بد لكل بناء من لبنات... ولبنة هذا البناء الفرد الآدمي، ثم أسرته ثم مجتمعه..وك ان القرآن يتنزَّل مُنجَّمًا ليقراه الرسول صلى الله عليه وسلم على الناس على مكث: {وَبِالْحَق ِّ أَنْزَلْنَ اهُ وَبِالْحَق ِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَ اكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاه ُ لِتَقْرَأَ هُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْن َاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: 105-106]، فالقرق مقصود والمكث مقصود.. ومما جاء في بتاء مجتمع جديد، يُصنَع لقيادة البشرية وعمارة الأرض إلى أن تقوم الساعة، هذه الايات من سورة الأحزاب، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِ ينَ وَالْمُنَا فِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُون َ خَبِيرًا، وَتَوَكَّل ْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب: 1- 3]..وسوف أدَعُ صاحبَ الظلال يحدثنا، فيقول: "هذا هو ابتداء السورة التي تتولى تنظيم جوانب من الحياة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الإسلامي الوليد. وهو ابتداء يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي والقواعد التي يقوم عليها في عالم الواقع وعالم الضمير.
إن الإسلام ليس مجموعة إرشادات ومواعظ، ولا مجموعة آداب وأخلاق، ولا مجموعة شرائع وقوانين، ولا مجموعة أوضاع وتقاليد…. إنه يشتمل على هذا كله. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام..
إنما الإسلام الاستسلام. الاستسلام لمشيئة الله وقدره؛ والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه؛ ولاتباع المنهج الذي يقرره دون التلفت إلى أي توجيه آخر وإلى أي اتجاه. ودون اعتماد كذلك على سواه.وهو الشعور ابتداء بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للناموس الإلهي الواحد الذي يصرّفهم ويصرّف الأرض، كما يصرّف الكواكب والأفلاك؛ ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما يقصر عنه إدراك البشر.
وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتِّباع ما يأمرهم به الله والانتهاء عما ينهاهم عنه؛ والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله..
هذه هي القاعدة. ثم تقوم عليها الشرائع والقوانين، والتقاليد والأوضاع، والآداب والأخلاق. بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في الضمير؛ والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة..
إن الإسلام عقيدة. تنبثق منها شريعة. يقوم على هذه الشريعة نظام. وهذه الثلاثة مجتمعة مترابطة متفاعلة هي الإسلام.. ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة، هو التوجيه إلى تقوى الله. وكان القول موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم القائم على تلك التشريعات والتنظيمات .. { يا أيها النبي اتق الله}.. فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ. وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.
وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : { ولا تطع الكافرين والمنافقين }.. وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأنَّ ضغطَ الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفاً، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم. ثم يبقى ذلك النهي قائماً في كل بيئة وكل زمان، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقاً، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة. ليبقى منهجهم خالصاً لله، غير مشوب بتوجيه من سواه.
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف فإن الله هو العليم الحكيم؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : {إن الله كان عليماً حكيماً}.. وما عند البشر إلا قشور، وإلا قليل!
والتوجيه الثالث المباشر : {واتبع ما يوحى إليك من ربك}. فهذه هي الجهة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الحقيق بالاتباع.
فالوحي { إليك} بهذا التخصيص . والمصدر {من ربك} بهذه الإضافة . فالاتباع هنا متعين بحكم هذه الموحيات الحساسة ، فوق ما هو متعين بالأمر الصادر من صاحب الأمر المطاع . . والتعقيب : {إن الله كان بما تعملون خبيراً} . . فهو الذي يوحي عن خبرة بكم وبما تعملون؛ وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون ، ودوافعكم إلى العمل من نوازع الضمير .
والتوجيه الأخير : {وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلاً} . . فلا يهمنك أكانوا معك أم كانوا عليك؛ ولا تحفل كيدهم ومكرهم؛ وألق بأمرك كله إلى الله ، يصرفه بعلمه وحكمته وخبرته . . ورد الأمر إلى الله في النهاية والتوكل عليه وحده ، هو القاعدة الثابتة المطمئنة التي يفيء إليها القلب؛ فيعرف عندها حدوده ، وينتهي إليها؛ ويدع ما وراءها لصاحب الأمر والتدبير ، في ثقة وفي طمأنينة وفي يقين .
وهذه العناصر الثلاثة : تقوى الله . واتباع وحيه . والتوكل عليه مع مخالفة الكافرين والمنافقين هي العناصر التي تزود الداعية بالرصيد؛ وتقيم الدعوة على منهجها الواضح الخالص . من الله ، وإلى الله ، وعلى الله . {وكفى بالله وكيلاً }"[في ظلال القرآن: 5/ 2822].
أما إذا أخذنا الإسلام عوائد وتقاليد، وأما إن اتخذنا القرآن تسابيح وتعاويذ فحسب، أو رقىً وأحجبة.. فلن يتغير حالنا ولن نبرح مكاننا.. فلنعُد إلى الإسلام كما أنزله الله تعالى، وكما بلَّغه ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه سلف هذه الأمة من صحابة وتابعيين رحمهم الله جميعا وهدانا لهُداهم

سيد قطب