وجهه: كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا وجه مستوٍ أملس، بدا مخروطًا أسيلاً كأنه قد سن عنه اللحم، فلم يكن وجهه مستديرًا غاية التدوير، أو مستويًا غاية الاستواء، بل صيغ بين الاستدارة والاستواء، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمطَهَّم [1] ولا المكَلْثم، [2] وكان في وجهه تدوير.[3] وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مستديرًا [4]. ولقد لاح على هذا الوجه الجميل الجليل جبين مشرق، زُيِّن ببشرة رقيقة، وضح معها المحيا، وحسنت بها الملامح، وبدا كالقمر يتلألأ، يقول هند بن أبي هالة في وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه كتلألؤ القمر ليلة البدر [5]. وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا[6]. وخرَّج هذا الحديث ابن أبي خيثمة من حديث إبراهيم بن يوسف، كما رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي نعيم عن زهير عن أبي إسحاق قال: سُئل البراء: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، مثل القمر. وروى البيهقي في الدلائل، عن سماك، أنه سمع جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال له رجل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مثل السيف؟ قال جابر: لا، بل مثل الشمس والقمر مستديرًا. قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله بن موسى. وعن أشعث عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان [7]وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو أحسن كان في عيني من القمر. وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أماثل بينه وبين القمر [8]. وخرَّج البخاري من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا، وأسارير وجهه تبرق، فقال: "ألم تسمعي ما قال المدلجي؟ ورأى زيدًا وأسامة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". وخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، وقال أبو إسحاق الهمداني: عن امرأة من همدان سماها، قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم مرات، فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن، عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبيه إذا مرَّ بالحجر. قالت: كان كالقمر ليلة البدر، ولم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. وخرج عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي من حديث أسامة بن زيد، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: قلت للربيع بنت معوذ: صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة [9]. وقالت عائشة رضي الله عنها: استعرت من حفصة بنت رواحة إبرة كنت أخيط بها ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت عني الإبرة، فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبينت الإبرة لشعاع نور وجهه [10]. وجاء في وصف أم معبد رضي الله عنها قولها: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه[11]،وسيمًا قسيمًا [12]. وعن أشعث بن أبي الشعثاء قال: سمعت شيخًا من بني كنانة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحسن الرجال وجهًا [13]. يتبين لنا من جملة هذه الأحاديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم حباه ربه جمال المنظر، وحسن السمت، وصفاء الوجه، وبهاء الصورة، ومن أُتِيَ وجهًا كهذا الوجه فإن العيون لا تمل من النظر إليه، والنفوس لا تسأم من الجلوس بين يديه؛ فهو صلى الله عليه وسلم في ذروة سنام الحسن، وقمة صباحة الوجه، كأنما أفرغ في قالب من فضة، لم يُر أوضأ ولا أضوأ منه، إذا سُرَّ استنار وجهه وفاض نوره، وإذا رآه الرائي حسب أن قطعة من القمر استقرت على الأرض. ولنا وقفة مع حسن الصورة وبهاء الطلعة، فحسن الوجه ينبئ عن نفس زكية تميل إلى فعل الجميل، وقد وقع بين الخَلق والخُلق تناسب قوي، وصلة قريبة؛ فإنه قلَّ أن تجد صورة حسنة تخفي وراءها نفسًا رديئة، وعزَّ أن تطالع عينك وجهًا حسنًا، ولا يقع في نفسك منه مظنة لفعل الجميل، فطلاقة الوجه واستبشاره بريد ما في النفس وعنوان له. وقد أنشد بعضهم:
سيدي أنت أحسن الناس وجهًا
كن شفيعي في هول يوم كريه
قد روى صحبك الكرام حديثًا
اطلبوا الخير من حسان الوجوه
يقول الكلاباذي: والذين وجوههم طلقة مستبشرة بسطة، فإن ذلك يدل على سعة صدورهم، وحسن أخلاقهم، وتحريهم مسرة الناس، ومن اتسع صدره لا يصعب عليه قضاء الحاجة لأخيه،ومن حسن خلقه استحيا من الرد، ومن اتسع صدره يسخو بما في يديه، فإن البخل من ضيق الصدر؛ لأنه يخاف أن يحتاج إلى ما يطلب منه، فيتمسك به ضنًّا به؛ لحاجته إليه، لضيق صدره عن تحمل الخصاصة إن دُفع إليها. ومَن تحرَّى مسرة الناس، يسارع إلى قضاء حوائجهم؛ لأن طلاقة وجهه وبسطه إنما يريد به مسرة الناس، ويطلب محابهم وقضاء حوائجهم مسرتهم ومحابهم [14]. قال قتادة: ما بعث الله تعالى نبيًّا إلا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتي بعث نبيكم، فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، ولم يكن يرجع بل كان يمد بعض المد. وقيل لابن دلبر المنجم: ما الدليل على أن المشتري سعدٌ؟ فقال: حسنه. وقال الفلاسفة: قلَّ صورة حسنة تتبعها نفس رديئة. منظره ينبيك عن مخبره. نقش الطوالع مقروء من الطين. كفاك منظره إيضاح مخبره. في حمرة الخد ما يغني عن الخجل.
وقد وقعت طلاقة وجهه صلى الله عليه وسلم وصباحته موقعًا حسنًا في نفوس أصحابه، حملهم على توسم العفو والصفح فيه، وتوقعه منه إذا وقع منهم ما يغضبه أو يثير حفيظته، ما لم يكن الغضب نابعًا عن انتهاك حدٍّ من حدود الله، أو تعدٍ على حرماته، أما ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم فهو صافح عنه، مغتفر لأصحابه ما يغضبه في نفسه، وهذا من خلقه الكريم، كما قال رب العزة: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُ مْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّ مْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْم ِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. ولقد مدحه عمه أبو طالب بقوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ♦♦♦ ثمال اليتامى عصمة للأرامل
كما أن هذا الوجه الطلق الصبوح كان يبعث على الأمل والتفاؤل والاستبشار ، ولقد بلغ من استبشار الصحابة بوجه النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يطلبون إليه أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى يستسقيه، عندما كانت تحل بهم سنوات القحط والجدب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام إليه الناس فصاحوا، فقالوا: يا نبي الله، قحط المطر، واحمر الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا. فقال: "اللهم اسقنا". قالوا: وايم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب. قال: فنشأت سحابة فانتشرت، ثم إنها مطرت، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى وانصرف، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، صاحوا وقالوا: يا نبي الله، تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا. قال: فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا". قال: فتقشعت عن المدينة، فجعلت تمطر حولها وما تقطر بالمدينة قطرة. قال: فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل. [15]. وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم عن أبيه قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي،فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: [16]وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى[17] عصمة للأرامل وهو قول أبى طالب.[18].
جاء في عمدة القاري: ومناسبة هذا التعليق للترجمة تؤخذ من قوله: يستسقي؛ لأن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - يخبر عن استسقاء النبي وهو ينظر إلى وجهه الكريم، ولم يكن استسقاؤه في ذلك إلا عن سؤال عنه، ويوضح ذلك ما رواه البيهقي في "الدلا ئل"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله، والله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، [19]ولا صبي يغطُّ، [20]ثم أنشد:
أتيناك والعذراء يُدمَى لبانها
وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الصبي استكانة
من الجوع ضعفًا ما يُمِرُّ وما يُحْلِي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العاهي
العاهي: فاعل من العاهة، وهي الآفة.والع ِلْهِز الفَسْل[21].
وليس لنا إلا إليك فرارنا ♦♦♦ وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟!
فقام رسول الله يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "اللهم اسقنا..". الحديث، وفيه: فجاء أهل البطانة يصيحون: الغرق الغرق. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله در أبي طالب! لو كان حاضرًا لقرت عيناه، مَن ينشدنا شعره؟". فقال عليٌّ: يا رسول الله، كأنك أردت قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه.. فذكر أبياتًا منها، فقال رسول الله: "أجل". فقام رجل من بني كنانة فأنشد أبياتًا:
لك الحمد والحمد مِمَّن شكرْ
سُقِينا بوجه النبي المطرْ
دعا الله خالقه دعوة
وأشخص معها إليه البصر
فلم يك إلا كإلقا الردا
أو اسرعَ حتى رأينا الدرر
وكان كما قاله عمه
أبو طالب أبيض ذو غُرر
به الله يسقي صوب الغمام
وهذا العيان لذاك الخبر
فمَن يشكر الله يلقَ المزيد
ومن يكفر الله يلقَ الغِيَر
فقال رسول الله: "إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت".[22]. ولقد ورد أن السيدة عائشة رضي الله عنها نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسمت، فقال لها: مِمَّ تبسمت يا عائشة؟ فقالت: تأملت وجهك، ولو كان أبو كبير الهذلي رآك ما قال ما قال. فقال عليه الصلاة والسلام: "وما قال؟". فأنشدت: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه = برقت كبرق العارض المتهلل[23].

[1] المطهم: هو المنتفخ الوجه.

[2] المكلثم: هو المدور الوجه.

[3] رواه الترمذي والبغوي في شرح السنة.

[4] رواه أحمد.

[5] رواه الترمذي في الشمائل، والطبراني في الكبير، والسيوطي في الجامع الصغير.
[6] رواه البخاري ومسلم.

[7] أي: مضيئة.

[8] أخرجه الترمذي في الشمائل.

[9] انظر: إمتاع الأسماع فيما للنبي صلى الله عليه وسلم من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، المقريزي 2/ 152.
[10] رواه ابن عساكر، والأصبهاني في الدلائل، والديلمي في مسند الفردوس، كما في الجامع الكبير للسيوطي.

[11] الأبلج: أي الحسن المشرق المضيء.

[12] رواه الطبراني والحاكم وابن سعد.

[13] رواه ابن شبة في أخبار المدينة، ورجاله ثقات.

[14] بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار، للكلاباذي 1/ 117.

[15] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[16] يجيش: يتدفق ويفيض. والميزاب: أنبوبة تُركَّب في جانب البيت من أعلاه؛ لينصرف منها ماء المطر.

[17] ثمال: غيَّاث.

[18] رواه البخاري

[19] أطَّ أطًّا وأطيطًا: صوت.

[20] غطَّ في نومه غطًّا وغطيطًا: صات، وردد النفس في خياشيمه.

[21] العِلْهِز (بكسر العين المهملة، وسكون اللام، وكسر الهاء، وفي آخره زاي): هو شيء يتخذونه في سني المجاعة؛ حيث يخلطون الدم بأوبار الإبل، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. الفَسْل (بفتح الفاء، وسكون السين المهملة): هو الشيء الرديء الرذل، يقال: فسله وأفسله. قاله ابن الأثير. ويُروى بالشين المعجمة، وقال في باب الشين: الفشل والفزع والخوف والضعف، ومنه حديث الاستسقاء.

[22] عمدة القاري، 7/ 31

[23] ربيع الأبرار 1/ 135