إنَّ الإسلامَ جاء بإقامة العدل والإنصاف في الأرض، وتحرير البشر مِن براثن الظلم والجور، وتخليص الناس من عبودية الطواغيت الذين يذلون الشعوب، ويتحكمون في مقدراتهم، ويَغتصبون حقوقهم، ويكبِّلونه م بقيود القهر والاستعباد .
فرسالة الإسلام إقامة للحق، ورحمة للخلق؛ ولذلك كانت نصرة المستضعفين وإجارة المستجيرين من القواعد الأخلاقية التي أسَّسها الإسلام ودعا إليها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْت َضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَا ءِ وَالْوِلْد َانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَ ا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75].
قال الطبري: "يَعني بذلك - جل ثناؤه -: ﴿ وَمَا لَكُمْ ﴾ أيها المؤمنون: ﴿ لَا تُقَاتِلُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، ﴿ وَ ﴾ في ﴿ الْمُسْتَض ْعَفِينَ ﴾ يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان.
فأما مِن "الرجال"، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكَّة فغلبتْهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم؛ ليَفتِنوهم عن دينِهم، فحضَّ اللهُ المؤمنين على استِنقاذهم من أيدي من قد غلبَهم على أنفسهم من الكفار.
فقال لهم: وما شأنكم لا تُقاتلون في سبيل الله وعن مُستضعفي أهل دينِكم وملَّتِكم الذين قد استضعَفَهم الكُفار فاستذلُّوه م ابتغاءَ فِتنتِهم وصدِّهم عن دينهم"[1].
وقال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِك ِينَ اسْتَجَارَ كَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم ْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُون َ ﴾ [التوبة: 6].
قال الشوكاني: "يقال: استجرت فلانًا؛ أي: طلبت أن يكون جارًا: محاميًا ومحافظًا من أن يظلمني ظالم، أو يتعرض لي متعرِّض.
وإن استجارك أحد من المشركين الذين أُمرت بقتالهم، فأجره؛ أي: كن جارًا له مؤمِّنًا محاميًا؛ ﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ منك ويتدبَّره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه.
﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التوبة: 6]؛ أي: إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم.."[2].
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((شهدت حلف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه))[3].
والمراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبدالله بن جدعان كما رواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عبدالله عن محمد وعبدالرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفًا لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن يردُّوا الفضول على أهلها، وألا يغزو ظالم مظلومًا)).
قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة، وهو أكرم حلف سُمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول مَن تكلَّم به ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب.
وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيديُّ الأحلافَ؛ عبدَالدار ومخزومًا وجمحًا وسهمًا وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه - أي: انتهروه - فلما رأى الزبيديُّ الشرَّ أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريشٌ في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:
يا آلَ فِهر لمظلومٍ بضاعتُه
ببطن مكة نائي الدار والنفَرِ
ومُحْرِمٍ أشعثٍ لم يقضِ عمرته
يا لَلرجالِ وبين الحِجْر والحَجَرِ
إنَّ الحَرَام لِمَن تمَّت كرامته
ولا حرام لثوبِ الفاجر الغَدِرِ

فقام في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مترَك.
فاجتمعت هاشم وزهرة وتَيم بن مرة في دار عبدالله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، ما بلَّ بحر صوفة، وما رسا ثبير وحراء مكانهما، وعلى التآسي في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وقال الزبير بن عبدالمطلب في ذلك:
حلفت لنعقدنْ حلفًا عليهم
وإن كنا جميعًا أهل دارِ
نسمِّيه الفضول إذا عقدنا
يعزُّ به الغريب لذي الجوارِ
ويَعلم من حَوالي البيت أنَّا
أباةُ الضَّيْمِ نمنع كل عارِ

وقال الزبير أيضًا:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا
ألا يُقيمَ ببطْن مكة ظالمُ
أمرٌ عليه تعاقَدوا وتواثقوا
فالجارُ والمعترُّ فيهم سالِمُ

إن حلف الفضول كان تجمُّعًا وميثاقًا إنسانيًّا تنادَت فيه المشاعر الإنسانية، وإضاءة العقول، لنُصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق المضيع، لم تُحدثه سلطات ولا قوى دولية، بل أنشأته قوى اجتماعية بدوافع إنسانية، وإحساس وجداني عميق بضرورة نصرة المُستضعَف ين والمظلومين .
إن هذه الوثيقة التاريخية تكشف لنا عن أبرز مبادئ الإسلام الإنسانية على المستوى الدولي، وهي نصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، بغضِّ النظر عن دين المظلوم ومذهبه وعشيرته وقوميته ووطنه.
ويُعطينا هذا الحلفُ والميثاق أصلاً قانونيًّا، ودليلاً على تنظيم الإسلام للعلاقات الإنسانية على المستوى الدولي، والحث على الاشتراك في المنظمات الدولية الإنسانية التي تعمل على إغاثة المظلومين ونصرتهم، والدفاع عن حقوقهم، ومقاومة الظلم والطغيان في أي بقعة من بقاع العالم.
إن هذه القيم الإنسانية في حقلها الأخلاقي والسياسي لهي من أعظم القيم التي تَحتاجها الإنسانية في عالَمنا المعاصر، عالم التكتُّلات العدوانية، وعالم المنظَّمات المسخرة لخدمة الطاغوت العالمي، والقوى المتسلِّطة .
إن بإمكان كل ذي حس أخلاقي ووعي سياسي، أن يشخص الدور العدواني للتكتلات الدولية المعاصرة التي صارت تستخدم كأداة للظلم والاضطهاد، كما كانت قريش الجاهلية تستخدم قوتها وأحلافها ونفوذها لظلم المستضعفين ، فاندفع ذوو الضمائر الحرة، والمشاعر الإنسانية النبيلة، والخلق الرفيع، لتشكيل (حلف الفضول)؛ لنصرة المظلوم، وإرغام الظالم على إنصافه[4].
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلن اعتزازه بالاشتراك بهذا الحلف الذي عُقد بالجاهلية قبل الإسلام؛ لما اشتمل عليه من مبادئ يقرها الإسلام ويدعمها؛ من إقامة العدل، ونصرة المظلوم والمستضعف، وإغاثة الملهوف.
وفي موقع آخر يجسد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلك المبادئ سلوكًا وعملاً، فيخف لنصرة المظلوم والدفاع عن حقِّه، ولم يكن هذا المظلوم مسلمًا، والرسول يومها نبي يحمل الدعوة إلى الناس وينادي فيهم، والدعوة لإقامة العدل ونصرة المظلومين هي منهج القرآن، وأساس في سيرة الرسول العملية، ومسؤولية الإنسان على امتداد وجوده على هذه الأرض.
وكما رأينا هذا الموقف العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة الجاهلية لنصرة المظلوم والمضطهد في حلف الفضول، فإننا نقرؤه في موقفه العملي من أبي جهل في بداية الدعوة، يوم كان الرسول صلى الله عليه وسلم مضطهدًا محارَبًا مستضعَفًا، فلم يمنعه وضعه السياسي والاجتماعي المحاصر آنذاك من الانتصار للمظلوم، والمطالبة بحقه من أعتى طواغيت عصره، وأكثرهم عداوة وخصومة له.
لنقرأ موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مظلوم استغاث به لإنقاذ حقِّه، ولنتأمل في الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم يومها.
"قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكَّة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، مَن رجلٌ يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب، وابن سيل، وقد غلَبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى ذلك - يهمزون به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه، فهو يعديك عليه.
فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه، قالوا لمن معهم: اتبعه؛ فانظر ما يصنع؟ فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: مَن هذا؟ قال: محمد، فاخرج، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال: أعطِ هذا الرجل حقَّه، قال: لا يبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعَه إليه، ثمَّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للأراشي: ((الْحَقْ لشأنك)).
فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد أخذ الذي لي.."[5].
إن هذه الحادثة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية تَكشف عن إنسانية الدعوة، ووقوفها إلى جنب الإنسان المظلوم، واستنقاذ الحق، رغم أنَّ الظالم كان من أعتى طواغيت قريش، ورغم العداوة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يَعتذر من الرجل لما يعلم من أبي جهل، بل صحبه إلى دار أبي جهل، ووقف بكل جرأة وشجاعة، بل وتحدٍّ للظالم، يطالبه بحق المظلوم.
والموقف كما يكشف عن مواجهة الظلم والطغيان، فإنَّه يكشف عن الاهتِمام بالآخرين، ومشاركتهم بهمومهم، والوقوف معهم لاستِنقاذ حقوقهم الشخصية، ويبرز معاني المروءة والشهامة الأصيلة التي تدفَع المرء لارتكاب المخاطر دفاعًا عن المظلومين ونصرة للمُستضعفي ن.
إن ذلك الموقف الصادر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثله الموقف في حلف الفضول - يؤكد أنَّ الدفاع عن الحق، ونصرة المظلوم: قاعدة أخلاقية إسلامية واجبة على كل مسلم قادر على القيام بها تجاه المظلومين والمضطهدين ، وبغضِّ النظر عن عقيدة المظلوم أو لغته أو طبقته الاجتماعية أو انتمائه السياسي.
إن هذه المواقف المنبثقة عن قاعدة الدفاع عن الحق، والرحمة بالخلق، هي تجسيد للمروءة والشهامة في مواجهة ظاهرة الاستبداد والظلم في المجتمعات الجاهلية، وتأكيد على دور المسلمين في قهر الظلم، وإرساء قواعد العدالة في الأرض[6].

[1] تفسير الطبري (7 / 230).
[2] فتح القدير للشوكاني (2 / 491).
[3] أحمد (1567).
[4] انظر: نصرة المظلوم والدفاع عن حقوق الإنسان، مقال في موقع الدين والحياة، شبكة المعلومات الدولية.
[5] البداية والنهاية (2 / 388 - 389).
[6] انظر: نصرة المظلوم والدفاع عن حقوق الإنسان، مقال في موقع الدين والحياة، شبكة المعلومات الدولية.