ملخص السؤال:
شاب تُوُفِّيتْ جدتُه، ويسأل عن مصيرها بعد مماتها؛ لأنها كانتْ تخطئ في صلاتها ووضوئها، وكانتْ مريضة ولا تستطيع الحركة، وكان مقصِّراً في تعليمها.
تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.تلقيتُ خبرًا حزينًا جدًّا صدَمني وآلَمني جدًّا، وهو وفاة جدتي رحمها الله، وكم كنتُ أوَدُّ أن ألتقي بها بعد عودتي إلى البيت، لأجل أن أعلِّمَها بعض المسائل في تصحيح الصلاة، فكانت تُصلِّي خطأ، وكانتْ أميةً لا تقرأ ولا تكتُب، وكان يؤلمني أنها تُصلي خطأً!خطئي أنني تقاعسْتُ عن تعليمها، لكن كنتُ أثق أنني يومًا ما سأعلمها، وكان يشغلني عن تعليمها أنها كبيرةٌ في السِّنِّ.كانت مريضةً لا تتحرك، وكانتْ تُصلي وهي مريضة قبل موتها، ولا تستطيع التحرُّك من شدة المرض!أخاف عليها جدًّا أن تُعذَّبَ بسبب صلاتها ووضوئها الخطأ، ووالله لا شيء يُقلقني أكثر مِن مَصيرها، أريد معرفة مَصيرها عند الله تعالى وفق الأدلة الشرعيَّة حتى يرتاح قلبي.
أرجو الدُّعاء لها بظاهر الغيب أن يغفرَ الله لها، وأن يتجاوَز عن سيئاتها
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:فإنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجَلٍ مُسمى، فلتصبرْ، ولتحتسبْ، وشكر الله لك أيها الابن الكريم رحمتك بجدتك، وخوفك عليها.وبعدُ، فمما قرَّره أهلُ العلم: أن عبادات العوام التي تقع ناقصةً صحيحة، ولولا هذا لبطلتْ عبادات أكثر الناس مِن صلاةٍ وصيامٍ وغيرهما، ذكَر بعضًا منها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في مواضعَ مِن مجموع الفتاوى، وهو يُقَرِّر تلك القاعدة فقال: (21/ 428): "لكن العُذْرَ يُبيح له شيئين: يُبيح له ترْك ما يعجز عنه، ويُبيح له الجمع بين الصلاتين، فما عجز عنه العبدُ مِن واجبات الصلاة سقَط عنه؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْت ُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [المؤمنون: 62]، وقال - لما ذكَر آية الطهارة -: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّر َكُمْ ﴾ [المائدة: 6]... الآية، وقد رُوِيَ في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم))، فالمريضُ يُصَلِّي على حسب حاله، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا، فإنْ لَم تستطعْ فعلى جنبٍ))، وسقَط عنه ما يعجز عنه مِن قيامٍ وقُعودٍ أو تكميل الركوع والسجود، ويفعل ما يقدر عليه، فإن قدر على الطهارة بالماء تطهَّر، وإذا عجز عن ذلك لعدم الماء، أو خوف الضرر باستعماله تيمَّم وصلَّى، ولا إعادة عليه لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء، وكذلك لا إعادةَ إذا صلى بالتيمم باتفاقهم، ولو كان في بدنه نجاسة لا يُمكنه إزالتها صلى بها، ولا إعادة عليه أيضًا عند عامة العلماء".وقال أيضًا في معرِض كلامه عن حديث المسيء في صلاته الذي كان لا يترك ركْن الاطمئنان جهلاً منه بالحكم في مجموع الفتاوى (21 / 430): "فعلَّ مه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصلاة بالطمأنينة ، ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت مع قوله: والذي بعثك بالحق لا أُحْسِن غير هذا، ولكن أمره أن يُعيدَ تلك الصلاة؛ لأن وقتها باقٍ، فهو مأمور بها أن يُصلِّيها في وقتها، وأما ما خرج وقتُه مِن الصلاة فلم يأمُرْه بإعادته، مع كونه قد ترك بعض واجباته؛ لأنه لم يكن يعرف وُجوب ذلك عليه، وكذلك لم يأمرْ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يَقضي ما تركه من الصلاة لأجل الجنابة؛ لأنه لم يكن يَعْرِف أنه يجوز الصلاةُ بالتيمُّم، وكذلك المُستحاضة قالتْ له: إني أستحاض حيضة شديدةً منكرةً تمنعني الصوم والصلاة، فأمَرَها أن تتوضأ لكلِّ صلاة، ولم يأمرْها بقضاء ما تركَتْهُ، وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبيَّن لأحدهم الحبالُ البيض من الحبال السود، أكلوا بعد طُلوع الفجر ولم يأمُرْهم بالإعادة، فهؤلاء كانوا جُهَّالاً بالوجوب، فلم يأمُرْهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل".أما قلقك - سلمك الله - مِن مَصير جدتك؛ فهذا أمرٌ غيبيٌّ، لا يعلمه إلا الله، غير أننا نُحْسِن الظنَّ بالله الرحمن الرحيم، ونوقن بسعة رحمة الله سبحانه وتعالى التي قال عنها: ﴿ وَرَحْمَتِ ي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، فكنْ على ثقةٍ في رحمة ربك الواسعة، وعفوه الفَيَّاض، وكرمه الشامل، فقد أخبر عن نفسه الكريمة: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِن ِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وقال: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْم ِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وقال: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، والآياتُ بهذا المعنى أشهرُ من أنْ تُذْكَر.وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما قضى الله الخلْقَ، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوعٌ عنده: إن رحمتي تغلب غضبي))، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحمُ بعباده من الوالدة ***دها))، وتأمَّلْ رعاك الله سببَ ورود هذا الحديث الشريف كما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب، أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأة مِن السَّبي تبتغي، إذا وجدتْ صبيًّا في السبي، أخذتْه فألصقَتْه ببطنها وأرضعَتْهُ ، فقال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحةً ولدَها في النار؟))، قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده مِن هذه بِوَلَدِها )).وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وَسِعَتْ كلَّ شيء، كما قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 230)، وتدبَّر كلامه الماتع في "مختصر الصواعق المُرْسَلة على الجهميَّة والمُعَطِّ لة (1/ 368-371)، وهو يتكلَّم عن آثار رحمة الله تعالى في الخلْق والأمر: "فإنَّ ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وَسِعَتْ كل شيء، كما أن الموجودات كلها شاهدة له بالربوبية التامة الكاملة، وما في العالم مِن آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهدٌ بملكه سبحانه...، فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه وعَصَمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، وبرحمته عرَفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض، وجعلها مهادًا وفراشًا، وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطرَ، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذَلَّلها مُنقادَة للركوب والحمل والأكل والدر، وبرحمته وضَع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان.فهذا التراحُمُ الذي بينهم بعضُ آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته، وبصرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعتْ كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه مِن صفته وتسمى به دون خلقه، كَتَب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه: أنَّ رحمته سبقتْ غَضَبَه، وكان هذا الكتابُ العظيمُ الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوُز والستر والإمهال والحلم والأناة، فكان قيام العالم العُلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخر، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها، فبرحمته خُلِقَتْ، وبرحمته عُمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقتْ سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره مِن خلْقِه.ومِن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلَق للذَّكَر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسُل، وانتفاع الزوجين، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مَصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلَتْ مَصالحهم وانحلَّ نِظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته.ومِن رحمته أنه خلَق مائة رحمة، كلُّ رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة، نشرها بين الخليقة ليتراحَموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.وتأمَّلْ قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَن ُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَا نَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4]، كيف جعل الخلْقَ والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة مُتعلِّقًا باسم الرحمن، وجعل معاني السورة مُرتَبِطة بهذا الاسم، وختمها بقوله: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْر َامِ ﴾ [الرحمن: 78]، فالاسمُ الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة؛ إذ مجيء البَركة كلها منه، وبه وُضعت البركة في كلِّ مبارك، فكلُّ ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما خُلي منه نزعتْ منه البركة، فإن كان مذكى وخليَ منه اسمه كان ميتة، وإن كان طعامًا شارك صاحبه فيه الشيطان، وإن كان مدخلاً دخل معه فيه، وإن كان حدَثًا لم يرفع عند كثيرٍ من العلماء، وإن كان صلاة لم تصحَّ عند كثير منهم.ولما خلق سبحانه الرحم، واشتق لها اسمًا من اسمه، فأراد إنزالها إلى الأرض تعلَّقَتْ به سبحانه فقال: مه، فقالت: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أقطعَ مَن قطَعك، وأصل مَن وصلك؟ وهي مُتعلِّقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل، وكان تعلُّقها بالعرش رحمة منه بها، وإنزالها إلى الأرض رحمة منه بخلقه، ولما علم سبحانه ما تلقاه من نزولها إلى الأرض ومفارقتها لما اشتقت منه رحمها بتعلقها بالعرش واتصالها به، وقوله: ((ألا ترضين أن أصلَ مَن وصلك، وأقطع من قطعك))...إلى أن قال: وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله: ((سبقتْ رحمتي غضبي))، فالمسبوقُ لا بد لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة، فهو أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين.هذا، وأسأل الله أن يرحمَ جدتك وجميع موتى المسلمين، اللهم اغفرْ لهم وارحمهم، وعافِهم واعفُ عنهم، وأكرمْ نُزُلهم، ووسِّع مُدخلهم، واغسلْهم بالماء والثلْج والبَرَد، ونقِّهم من الخطايا كما يُنقى الثوبُ الأبيض من الدنس، وأبدلهم دارًا خيرًا مِن دارهم، وأهلاً خيرًا مِن أهليهم، وأدْخِلْهم الجنة، وأعِذْهم من عذاب القبر، ومِن عذاب النار، اللهم إنهم في ذمتك وحبل جوارك فقِهم فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهلُ الوفاء والحق، فاغفرْ لهم وارحمهم، إنك الغفور الرحيم، اللهم عبادك وإماؤك احتاجوا إلى رحمتك، وأنتَ غنيٌّ عن عذابهم، اللهم إن كانوا محسنين فزِدْ في حسناتهم، وإن كانوا مسيئين فتجاوَزْ عن سيئاتهم، اللهم لا تَحْرِمْنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم، اللهم آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم