♦ ملخص السؤال:
شابٌّ كان مدمنًا على الأفلام الإباحية، لكنه تاب، وتجسَّس صديقُه على حاسوبه، ثم فَضَحه بين مَعارفه.

♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ كنتُ مدمنًا على لأفلام الإباحية، وكان صديقي يَتجسَّس على حاسوبي، ثم فضحني بين كل معارفي.


تبتُ إلى الله

ولكن بعد فضيحتي بين الناس أوشكتُ على الانتحار
الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فهنيئًا لك أيها الابن الكريم على التوبة، والحمد لله الذي مَنَّ عليك بالأوبة إليه، ونسأل سبحانه أن يثبتك على الحق حتى الممات.


وبعدُ، فإنَّ الاستقامةَ على طاعة الله والبُعدَ عن الذنوب هما غاية كلِّ مسلم، وإذا وقع في الذنوب سارَع إلى التوبة استجابةً لأمر الله؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِ مْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُو ا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُ وا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُ مُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُون َ ﴾ [الزمر: 53، 54]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَا تِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّاب ُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَ اتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون َ ﴾ [الشورى: 25]، وقال: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وأمثالُ هذه الآيات الكريمات كثيرة.


وفي الصحيحينِ عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَحكي عن ربه عزَّ وجلَّ، قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدي ذنبًا، فعَلِمَ أنَّ له ربًّا يَغفر الذنب، ويأخُذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يَغفر الذنب، ويَأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنَب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يَغفر الذنب، ويَأخذ بالذنب، اعملْ ما شئتَ فقد غفَرتُ لك))، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ((لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)).


فالأدلةُ السابقة وغيرها كثيرٌ تدلُّ على سعةِ رحمةِ رب العالمين، ومغفرته لجميع الذنوب، كما أن عليك - بارك الله فيك - الإكثار مِن فعل الطاعات والأعمال الصالحة، فالحسناتُ ماحياتٌ للذنوب كما قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَا تِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَ اتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِر ِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِن ِينَ ﴾ [هود: 114، 115]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعةُ إلى الجمعةُ، ورمضان إلى رمضان، مُكفراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر))؛ رواه مسلم، وقال: ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه))، والأحاديثُ بهذا المعنى كثيرة جدًّا.


أما ما تعرَّضتَ له مِن ابتلاء مِن كَشْفِ سترك، فهو وإن كان شديدًا على النفس، إلا أنه بعد توبتك ليس بشيءٍ، فالعبرةُ بما أنتَ عليه الآن، فنبيُّ الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وهو مِن أعظم رُسُل الله - لَمَّا نزلتْ عليه الرسالة، وأَمَرَهُ الله تعالى بالذهاب لفرعون أشر طواغيت الأرض على الإطلاق، وكان قد هرَب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي ، فقال له فرعون متهكمًا مستهزئًا: ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِ ينَ ﴾ [الشعراء: 19]، ففرعونُ حسب هذا ردَّ ردًّا قاتلًا لا يَملك نبي الله موسى عليه السلام معه جوابًا، ولا يستطيع مقاومة، وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبَها مِن قصاص، ويتهدَّده به مِن وراء الكلمات، ولكن موسى عليه السلام قال بكلِّ شجاعة قلب: ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَ ا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّي نَ ﴾ [الشعراء: 20]؛ أي: عن غير كفر، وإنما كان عن ضلال وسفهٍ، فاستغفرتُ ربي فغفر لي"؛ قاله الشيخ السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 590).


فكذلك أنت - سلمك الله - فعلتَ ما فعلتَه بضعفٍ بشريٍّ وخطأٍ، والحمد لله قد تُبتَ إلى الله، والتائبُ مِن الذنبِ كمَن لا ذنب له، كما صحَّ عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.


وأنقل لك كلامًا نفيسًا بهذا المعنى لشيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "منهاج السنة النبوية" (2/ 429-433): "... وإذا عُرِفَ أنَّ أولياء الله يكون الرجلُ منهم قد أسلم بعد كفره، وآمَن بعدَ نفاقه، وأطاع بعد معصيته، كما كان أفضلُ أولياء الله مِن هذه الأمة - وهم السابقون الأولون - يَبين صحة هذا الأصل.


والإنسانُ يَنتقل مِن نقصٍ إلى كمالٍ، فلا يُنظر إلى نقص البداية، ولكن يُنظر إلى كمال النهاية... ، إلى أنْ قال: ولهذا قال بعضُ السلَف: إن العبدَ ليفعل الذنب فيَدْخُل به الجنة.


وإذا ابتُلِيَ العبدُ بالذنب، وقد علم أنه سيتوب منه ويتَجَنَّب ه، ففي ذلك مِن حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يَزيده عبوديةً وتواضعًا وخُشوعًا وذلًّا ورغبةً في كثرة الأعمال الصالحة، ونفرةً قويةً عن السيئات؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُلدغ المؤمن مِن جحر مرتين))، وذلك أيضًا يدفع عنه العُجب والخُيلاء، ونحو ذلك مما يعرض للإنسان، وهو أيضًا يُوجب الرحمة لخلْقِ الله، ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا، وترغيبهم في التوبة...


وقد تكون التوبةُ مُوجبةً له مِن الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله (تائبًا) مِن الذنب، كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَا جِرِينَ وَالْأَنْص َارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوه ُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة ِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، ثم قال: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَ ةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُ مْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُو ا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّاب ُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، وإذا ذُكِرَ حديثُ كعب في قضية تَبيَّن أن الله رفَع درجته بالتوبة، ولهذا قال: فواللهِ ما أعلم أحدًا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني.


وكذلك قال بعضُ مَن كان مِن أشدِّ الناس عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسُهيل بنِ عمرو، والحارثِ بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان مِن أشد الكفار هجاءً وإيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما تاب وأسلم كان مِن أحسنَ الناس إسلامًا، وأشدهم حياءً وتعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحارث بن هشام، قال الحارث: ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ". مختصرًا.


فاستَعِنْ بالله، وكنْ قويًّا، واقطعْ خطرات الشيطان ووساوسه، فالانتحارُ ليس حلًّا، وإنما هو خسران في الدنيا والآخرة، والناسُ بعد فترة قصيرةٍ ستنسى أمر تلك المعصية، ويتعامَلون معك على حالك الجديد، وهذا أمرٌ مُجرَّبٌ مَعلوم يَشْهَدُ به الواقعُ، وكنْ على يقينٍ ((أنَّ القلوبَ بين أصبعين مِن أصابع الله، يُقلبها كيف يشاء))، كما في الحديث الصحيح.


وأبشِرْ بالخير؛ فإنَّ عاقبة الاستقامة الذِّكر الحسَن، والثناء الجميل، كما في حديث أبي ذَرٍّ، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل مِن الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بُشرى المؤمن))، وأبشِرْ ثانيةً فإنَّ قلوب الخلْقِ تقبل المحبة والرضا لمن أحبه الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيُحبه جبريل، ثم يُنادي جبريل في السماء: إن الله قد أَحَبَّ فلانًا فأحبوه، فيُحبه أهل السماء، ويوضع له الق*** في أهل الأرض)).


فانظرْ كيف تُزرع المحبة والرضا في القلوب الخلق مِن غير توددٍ ولا تعرُّضٍ لسبب غير الاستقامة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وأصول الدين وفروعه؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُ ونِي يُحْبِبْكُ مُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم ْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وفي السنة المُطهَّرة بيان تحقيق تلك المنزلة العظيمة؛ ففي حديث الولاية المُخَرَّج في صحيح البخاري (8/ 105) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يَزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه: كنتُ سَمعه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألَني لأُعطينه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه ، وما ترَددتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يَكره الموت وأنا أكره مساءته)).


فاحرصْ - شرَح الله صدرك - على تحصيل أسباب محبته سبحانه وتعالى بأداء فرائضه، والإكثار مِن النوافل حتى تصيرَ محبوبًا لله، فتحصل الثناء الجميل في الدنيا والآخرة.


فأطيبُ الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد، فإنه مُحب محبوبٌ، مُتقرِّب إلى ربه، وربُّه قريب منه، قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذِكره، وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله، وهذه آلاتُ إدراكه وعمله وسعيه، فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به؛ قاله الإمام ابنُ القيم في "المدا رج" (3/ 252).


وفَّقك اللهُ لكل خيرٍ، وألهمك رشدك

وأعاذك مِن شرِّ نفسك