♦ ملخص السؤال:
سائل يَسأل عن مشروعية تعدُّد النيات في العمل الواحد؛ إذ يُريد السائلُ حفظ القرآن الكريم، وإسعاد أمه، ويسأل: هل هذا مِن الرياء أو لا؟

♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله خيرًا على هذه الشبكة الرائعة، وآمل أن أجدَ لديكم حلًّا لمشكلتي.


في بعض الأحيان تقول لي أمي: "قم فصلِّ"، فأقوم لأصلِّي حتى لا تغضبَ منِّي وتفرح؛ فهي تفرح حين تراني أصلِّي جميع الفروض في وقتها، فهل تكون صلاتي هنا رياءً وغير خالصة لله؟


أنا أصلِّي لله، ولكن في بعض الأحيان أصلِّي حتى لا تغضبَ أُمي، أو حتى تسكتَ ولا تُذكِّرَني بالصلاة كلَّ وقت! وأريد أن أعلمَ هل هذا رياء أو لا؟ وكيف أصلِّي وحدي في أوقات الصلاة؟ وكيف أُحب الصلاة؟


وأريد أن أحفظَ القرآن الكريم كاملًا؛ حتى أحققَ حُلم أمي وأُلبِسَها التاجَ يوم القيامة، وتكون راضيةً عني في الدنيا، وفي نفس الوقت أريد أن أكون حافظًا لكتاب الله؛ ليَكون القرآن في قلبي.


فهل من الرياء أن أحفظَ القرآن لغَرَضٍ آخر، أو لتقول أمي للناس: ابني حافظٌ للقرآن، وتفخر بي؟


أرجو الإفادة، وجزاكم الله خيرًا



الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فما تَذكره أيها الابن الكريم ليس مِن الرياء في شيءٍ، الذي هو مُراعاة نظَر الناس حالَ أداء العبادة، أمَّا ما أنت فيه فهو ما يُسمِّيه العلماء تعدُّد النيات الصالحة في العمل الواحد، فأنت تُصلي لله تعالى، وهذا هو الإخلاصُ في العمل الذي هو شرطٌ في صحة الصلاة، ثم تُسعِد أمَّك الفاضلةَ التي تَحرص أن ترى ابنها من الصالحين.


وقد دلَّت الأدلة على أن مُخالطة نيَّاتٍ أخرى للنية الأصلية لا تُقلِّل من الثواب، كما يُقال: "النيا ت تِجارة العلماء"؛ فأنت تَذهب للمسجد ناويًا للصلاة، وقد تَنوي الجلوس بين المغرب والعشاء لقراءة القرآن، وحضور درس علم، أو الاطمئنان على بعض إخوانك، وما شابه ذلك، وقد تَحرَّج الصحابة رضي الله عنهم من التجارة في مواسم الحج، فأخبر تعالى أنَّ ابتغاء فضل الله بالتكسُّب في مَواسم الحج وغيره ليس فيه حرَج، إذا لم يَشغَل عما يجب، ما دام المقصودُ هو الحج؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، وروى البخاريُّ في تفسيرها عن ابن عباس، قال: "كانت عُكاظ ومجنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجِروا في المواسم، فنزلَت الآية"، وروى الطبري في "تفسير ه" عنه قال: كانوا لا يتَّجرون في أيام الحج، فنزلت الآية.


ونفس الكلام يُقال في حِفظ القرآن العظيم؛ تَحفظُه طاعةً لله، وإدخالًا للسعادة على قلب والدتك؛ فهو مِن أعظم البِرِّ.


أما كيف تتعلَّم حبَّ الصلاة وتحافظ عليها مِن تِلقاء نفسك: فذلك بمعرفة عِظَمِ شأن الصلاة ومكانتها في الإسلام، وأن الله علَّق الأُخوة الإيمانية بشروط: التوبة من الشِّرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ قال سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُو ا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَان ُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، كما جعَلَها الشارعُ الحكيم حدًّا فاصلًا بين الإسلام والكفر، فقال صلى الله عليه وسلم: ((العهد - أي: الحدُّ - الذي بينَنا وبينهم الصلاة، فمَن ترَكها فقد كفَر))؛ رواه أحمد وغيره، وروى البخاريُّ بإسناده أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن فاتَته صلاةُ العصر حَبِط عملُه)).


وحبُّ الصلاة هو ما يَبعث على المحافظة عليها والإحسان فيها، وسأنقل لك كلامًا نفيسًا لشيخ الإسلام ابن القيِّم وهو يتكلَّم عن الحكمة مِن فَرض الصلاة، قال في كتابه: "مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2/ 2، 3): "فالصل اةُ قد وُضِعَت على أكمل الوجوه وأحسنِها التي تَعبَّد بها الخالقُ تبارك وتعالى عبادَه؛ مِن تضمُّنِها للتعظيم له بأنواع الجوارح؛ من نُطقِ اللسان، وعمل اليدَين والرِّجلين والرأس، وحواسِّه وسائر أجزاء البدن، كلٌّ يأخذ حظَّه مِن الحكمة في هذه العبادة العظيمةِ المِقدارِ، مع أخذ الحواسِّ الباطنة بحظِّها منها، وقيام القلب بواجب عبوديته فيها، فهي مُشتَملة على الثناء والحمد والتمجيد والتسبيح والتكبير وشهادة الحق، والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع المدبرِ المربوب، ثم التذلُّل له في هذا المقام، والتضرُّع والتقرُّب إليه بكلامه، ثم انحناء الظهر ذلًّا له وخشوعًا واستكانة، ثم استواؤه قائمًا ليستعد لخضوعٍ أكمل له من الخضوع الأول، وهو السجود مِن قيامٍ، فيضع أشرف شيءٍ فيه - وهو وجهُه - على التُّراب خُشوعًا لربه واستكانةً، وخضوعًا لعظمته وذلًّا لعزَّته، قد انكسر له قلبُه، وذلَّ له جسمُه، وخشعتْ له جوارحه، ثم يستوي قاعدًا يتضرَّع له ويتذلَّل بين يديه ويسأله مِن فضله، ثم يعود إلى حاله من الذلِّ والخُشوع والاستكانة ، فلا يزال هذا دأبه حتى يقضيَ صلاته، فيجلس عند إرادة الانصراف منها، مثنِيًا على ربه، مسلِّمًا على نبيِّه وعلى عباده، ثم يُصلي على رسولِه، ثم يسأل ربه مِن خيرِه وبرِّه وفضلِه، فأيُّ شيء بعد هذه العبادة مِن الحُسن؟! وأيُّ كمال وراءَ هذا الكمال؟! وأيُّ عبوديَّةٍ أشرفُ من هذه العبودية؟! ".


كما أنصحك أيها الابن الكريم بالمُواظَب ة على الصلاة في الجماعة؛ ففضلًا عن كونها من أظهر الواجبات في الدين، وتضعف على صلاة البيت بخمسٍ وعشرين ضعفًا، وسبعٍ وعشرين درجة؛ كما صحَّ عن الصادق المصدوق - فهي أيضًا تجعل قلبَك معلَّقًا بالمسجد، وتُساعدك على المُداومة على الصلاة في أوقاتها.


أكثِر من التضرُّع والدعاء لله سبحانه وتعالى أن يُعينك على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته، وتذكَّر دائمًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((وجُعِلَت قرَّة عيني في الصلاة))، وقوله لبلال في الصلاة: ((أرِحْنا بها يا بلال)).


وفي الختام تأمَّل معي ما رواه النَّسائيّ ُ عن سَبْرة بن أبي فاكِهٍ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الشيطان قعَد لابن آدم بأَطْرُقِه ؛ فقعَد له بطريق الإسلام فقال: تُسلِم وتذَرُ دينَك ودين آبائك وآباءِ أبيك؟ فعَصاه فأسلَم، ثم قعَد له بطريق الهجرة فقال: تُهاجر وتدَعُ أرضَك وسماءك، وإنَّما مثَل المهاجر كمَثل الفرَس في الطول؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تُجاهد فهو جُهْد النفس والمال، فتُقاتل فتُقتَل، فتُنكَح المرأةُ ويُقسَم المال؟ فعصاه فجاهَد))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمَن فعَل ذلك كان حقًّا على الله عز وجل أن يُدخِلَه الجنة، ومن قُتِل كان حقًّا على الله عز وجل أن يُدخِلَه الجنة، وإن غَرِق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، أو وقَصَتْه دابَّته كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة)).


وفَّقك الله لكل خير، ورزقنا وإياك الإخلاصَ في القول والعمل