لماذا لا ينصرنا الله؟ لماذا يسمح بأن يَحدث لنا ما يجري من أحداث؟ لماذا يسمح لدِمائنا بأن تُسفك، ولأعراضنا بأن تُنتهك؟ لماذا يَسمح بأن نُعذب في السجون ونُقتل في الميادين؟ لماذا يسمح بأن تُهدم البيوت فوق رؤوسنا بصواريخ ظالِمة أو براميل متفجرة، تلقيها طائرات أنظِمة الطغيان، أو مَن يوالي تلك الأنظمة من الدول الكبرى التي تتصارَع في السيطرة على بلادنا، وتنهب خيراتنا، وتمتهن كرامتنا؟ لماذا يَسمح بأن نقضي تحت التعذيب في سجون سرِّية، ونُدفن في مقابر سرِّية، كجثث مجهولة الهويَّة؟ لماذا يسمح بأن نُحرق أحياء ونشنق دون ذنب ارتكبناه؟ لماذا يَقبل لنا أن نُشرَّد في أصقاع أوروبا، أو نموت وأطفالنا غرقًا في مياه المتوسط؟ لماذا لا ينقذنا الله من الذلِّ الذي نحن فيه؟ ألا يعلم الله أنَّنا مسلمون؟ ألا يعلم أنَّنا مظلومون مضطهدون؟ ألسنا أهله وندين بالدِّين الذي ارتضاه لنا؟ ألا يعلم الله أنَّ من يفعلون ذلك بنا طغاة بغاة ظلَمة هم الباطل بعينه؟ لماذا يمدُّ لهم الله ليتمادوا في طغيانهم وظُلْمنا؟ لماذا لا يأخذهم الآن أخْذَ عزيزٍ مقتدر؟ لماذا لا ينصرنا الله على الباطل وأهله وهو القادر على ذلك؟

تبرز هذه الأسئلة وغيرها من تلك الأسئلة التي تقَع في نفس المجال وتتردَّد على ألسنة الناس كثيرًا في أيامنا هذه... يطرحها البعض معبِّرين عن الضِّيق الشديد الذي يَشعرون به، والبعض الآخر يطرحها معربًا عن شكوكه التي تدور في خلده، فبسبب المِحن التي تحلُّ بنا، والابتلاءا ت الكثيرة التي نتعرَّض لها كأمَّة مسلمة منذ انهيار الخلافة الإسلامية وحتى الآن، وتفتت دولة الإسلام إلى د***ات تتوالي عليها ال***ات تترا - بات الشكُّ والتردُّد والحيرة هي سيِّدة الموقف في نفوس الكثيرين.. .

والشيء الملاحظ أنَّ غالبية المسلمين يتوقَّعون النَّصر دون أن يقدِّموا له ثمنًا، ويَستعجلون ه رغم أنَّه ربما لم يحنْ أوانه بعد، فهم يتوقَّعون أن يفيقوا صباحًا ليجدوا العالَمَ من حولهم قد تغيَّر فجأة والنصر يدق بابهم وينتظرهم.. . يتوقَّعون تغيُّر حالهم دون أن يتخلَّوا عن عاداتهم التي مردوا عليها والتي تبعدهم عن رِضا الله وتنأى بهم عن سنَّة نبيه، ودون أن يَبتعدوا عن المعاصي التي يرتكبونها تحت أسماء شتى...

يتوقَّع مسلمو اليوم تغيُّر حالهم دون أن يبذلوا أيَّ جهد لتغيير أنفسهم، فكيف يَتوقع النَّصر مَن يكون هو العَقبة في طريقه؟ وكيف يتوقع النَّصرَ مَن يساهم في تأخُّره عن أمَّة الإسلام؟ وهل يمكن أن ينصرنا الله من دون أن يَميز الخبيثَ من الطيب، ومن دون أن يظهر للناس الصَّادق من الكاذب بشكل جلي لا مواربة فيه؟

وبما أنَّني لستُ من أهل الإفتاء لأصدر الفتاوى بشأن هذا الموضوع، أنقل لحضراتكم آراءَ بعض أئمَّة الإسلام وعلمائه في هذا الموضوع:
• ويجيب شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه جامع الرسائل على سؤال (لماذا يتأخَّر عنا النصر؟)، بقوله: "قد يَسمع الإنسان ويرى ما يصيب كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما يصيب كثيرًا من الكفَّار والفجَّار في الدنيا من الرِّياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أنَّ النَّعيم في الدنيا لا يكون إلَّا لأهل الكفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعَّمون به إلَّا قليلًا، وكذلك قد يعتقد أنَّ العزَّة والنُّصرة قد تستقر للكفَّار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمِع ما جاء في القرآن من أنَّ العزَّةَ لله ولرسوله وللمؤمنين، وأنَّ العاقبة للتقوى، وقول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُ ونَ ﴾ [الصافات: 173]، وهو ممن يصدِّق بالقرآن، حمَل هذه الآيات على الدَّار الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا، فما نرى بأعيننا إلَّا أنَّ الكفَّار والمنافقين فيها يَظهرون ويغلبون المؤمنين.. .".

• أمَّا الشيخ ابن قيم الجوزية رحمه الله، فيقول في كتابه (طريق الهجرتين) حول موضوع تأخُّر النصر: "وكان في تَمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمال الذي يَحصل لهم بمعاداة هؤلاءِ وجهادِهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبَذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له؛ فإنَّ تمام العبوديَّة لا يحصل إلَّا بالمحبة الصَّادقة، وإنَّما تكون المحبَّة صادقةً إذا بذل فيها المحبُّ ما يملكه من مالٍ ورياسةٍ وقوةٍ في مرضاة محبوبه والتقرُّب إليه، فإذا بذل له روحه كان ذلك أعلى درجات المحبَّة، ومن المعلوم أنَّ من لوازم ذلك أن يَخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائعَ تقتضي معاداة من يحبه".

• أما المفكِّر الإسلامي سيد قطب رحمه الله، فيورِد في كتابه "في ظلال القرآن" ثمانيةَ أسباب متوقَّعة لتأخر النَّصر عن أمَّة الحق:
أولها: قد يبطئ النَّصر؛ لأنَّ بنية الأمَّة المؤمنة لم يَنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفَّز كلُّ خليَّة وتتجمَّع، لتعرف أقصى المدخور فيها من قوى واستعدادات ، فلو نالَت النصر حينئذٍ لفقدَته وشيكًا؛ لعدم قدرتها على حمايته ط***ًا.

ثانيها: قد يبطئ النَّصر حتى تبذل الأمَّة المؤمنة آخرَ ما في طوقها من قوَّة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تَستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هيِّنًا رخيصًا في سبيل الله؛ فلا زال بعضُ أهل الحق لم يبذل من ماله، وبعضهم لم يبذل جهدَه كلَّه، والبعض لم يستنفد كلَّ طاقاته في سبيل الله.

ثالثها: وقد يبطئ النَّصر حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخرَ قواها، فتدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سنَدٍ من الله لا تكفل النَّصر، إنَّما يتنزَّل النَّصر من عند الله عندما تبذل آخرَ ما في طوقها، ثم تَكل الأمرَ بعدها إلى الله.

رابعها: وقد يبطئ النَّصر لتزيد الأمَّة المؤمنة صِلتها بالله، وهي تعاني وتتألَّم وتبذل، ولا تجد لها سندًا إلَّا الله، ولا متوجهًا إلَّا إليه وحده في الضرَّاء، وهذه الصِّلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النَّهج بعد النَّصر، عندما يأذن به الله، فلا تَطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل والخيرِ الذي نَصرها الله به.

خامسها: وقد يبطئ النَّصر لأنَّ الأمَّة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كِفاحها وبذلِها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتِل لمَغنمٍ تحقِّقه، أو تُقاتل حميَّةً لذاتها، أو تقاتل شجاعةً أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّ جل يقاتل حميةً، والرجل يقاتل شجاعةً، والرجل يقاتل ليُرى، فأيها في سبيل الله؟"، فقال: ((مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العُليا، فهو في سبيل الله)).

سادسها: قد يبطئ النَّصر لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمَّة المؤمنة بقيَّة من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها ليتمحَّص خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبَّس به ذرَّة من خير تذهب في الغمار.

سابعها: وقد يبطئُ النَّصرُ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمَّة المؤمنة لم ينكشِف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ، فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، الذين لم يَقتنعوا بعد بفساده وضرورة زَواله، فتظل له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشِف لهم الحقيقة، فشاء الله أن يَبقى الباطل حتى يتكشَّف عاريًا للنَّاس، ويذهب غير مأسوفٍ عليه من ذي بقيَّة.

ثامنها: قد يبطئ النَّصر لأنَّ البيئة لا تَصلح بعدُ لاستِقبال الحقِّ والخير والعدل الذي تمثِّله الأمَّة المؤمنة، فلو انتصرَت حينئذٍ للقيَت معارضةً من البيئة لا يستقرُّ لها معها قرار، فيظل الصِّراع قائمًا حتى تتهيَّأ النفوس من حوله لاستقبال الحقِّ الظافر، ولاستبقائه .

﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُو نَ بِأَنَّهُم ْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِم ْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَت ْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات ٌ وَمَسَاجِد ُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُ رَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].

فليبادِر كلٌّ منَّا إلى تغيير نَفسه، والابتعاد عن المعاصي، والرجوع إلى الله، والتوبة إليه، واليقين بنَصره لأمَّته؛ حتى لا نكون سببًا في تأخُّر النَّصر عن أمَّة الإسلام.

د. زهرة وهيب خدرج