يدور المدلول الشرعيُّ لمصطلح الفتوى حول الإخبار الشرعي؛ فهي إخبار من غير إلزام بحكم الشريعة الإسلامية التي ارتضاها الشارع الحكيم لخلقِه شرعةً ومنهاجًا وقانون حياة، بخصوص مسألة معيَّنة تكون محلًّا للاستفسار والتساؤل، وهي تبْيينٌ لموقف الشريعة الإسلامية مما يقع للناس مِن حوادث، ويحلُّ بهم مِن نوازِل، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجَماعات، على أن يَستند هذا الإخبار والتبْيين إلى مقتضى الأدلة الشرعية المعوَّل عليها.

أما بالنسبة إلى مصطلح التغْيير، فإن مدلولَه الشرعيَّ ينصرف إلى: العمل على تبديل ما فسد من الأحوال والأوضاع، واستبدالها بأحوال وأوضاع أُخرى أنفع للعباد، وأصلح للبلاد، وفق مُقتضيات أحكام الشريعة الإسلامية، بتعريف ما عرَّفته وأمرتْ به، وإنكار ما أنكرته ونهَت عنه.

وبخصوص المَدلول الشرعي لمصطلح التغْيير، لدينا ملحظٌ مهمٌّ: مِن الواضح أنَّ التغيير كمُصطلح شرعيٍّ له ارتباط وثيق بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؛ وهو المعنى الإيجابي للتغيير الذي ارتضتْه نصوص الشريعة الإسلامية تحقيقًا لمصالح العباد والبلاد، ورعايةً لما يَنفع المجتمع بأفراده وجماعاته، ويدفع الفساد من أن يحيق بهم.

قد يأتي التغيير بمفهومٍ إيجابيٍّ، وهو الأصل الذي دلَّت عليه عديد الأدلَّة كما سأُشير، كما دلَّت عليه معانيه اللغوية؛ نحو: الإصلاح والتخفيف، النفع والخير، النصرة والإغاثة، ويكون القصد من هذا التغيير الإيجابي صلاح ونفع العباد، وإصلاح وانتِفاع البلاد، وهو ظاهر ما تُفيده الآيتان الكريمتان: قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُو ا مَا بِأَنْفُسِ هِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله جلَّ وعزَّ: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَ ا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُو ا مَا بِأَنْفُسِ هِمْ ﴾ [الأنفال: 53]، وأيضًا للحديث الصحيح المرويِّ عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله سلَّم يقول: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليُغيِّره بيده، فإن لم يَستطِع فبلسانه، فإن لم يَستطِع فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان))[2]؛ فهذه النُّصوص الشرعيَّة وشبهها تَشتمل على فقه تغيير المُنكر ووجوب الاضطلاع به، ومُراعاة مراتبه التي جاء النص عليها صريحًا في الحديث.

أيضًا قد يأتي التغيير بمفهوم سلبي يكون القصد منه فساد وضرر العباد، وإفساد وإضرار البلاد، وهو ظاهر ما تُفيده الآية الكريمة: ﴿ وَلَآمُرَن َّهُمْ فَلَيُغَيّ ِرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 119]؛ فالتغيير الذي تدلُّ عليه: إما تغيير لخَلق الله تعالى بالوشم والوشر والتفليج والخصاء وغيره، أو تغْيير لفطرة الله سبحانه وتعالى التي فطر عليها خلقه وهي دينه، وهذا القول أولى بالصَّواب، وقد رجَّحه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري[3]، ونبَّه إلى أنَّ التغيير بالمعنى الأول المُشتمل على أفعال المعاصي المذكورة وغيرها يَندر في تغيير الدِّين؛ لأن فيه تحريفًا لتعاليمه وأحكامه، وقد نقل الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير[4] كلا المعنيين دون ترجيح.

إنَّ التغيير كمُصطلح مفاهيمي إجرائي يُمكن وصفُه بأنه من أخطر المفاهيم المتغيِّرة ذات الصلة بشؤون المجتمع وأحواله ونوازله؛ من حيث إنه يتأثَّر أيَّما تأثُّر بعديد العوامل المحيطة به؛ منها: العامل الاجتماعي بمَظاهره المختلفة، والعامل السياسي بتجاذُباته وتراشُقاته العديدة، والعامل الاقتصادي بتقلباته وصروفه المتنوِّعة ، أضف إلى ذلك كله العامل الدِّيني بتوجيهاته العادِلة، والفهم الصحيح لها، وكذا المُمارسات الصحيحة للأحكام والنصوص الشرعية، أو حتى بشطحاته المعتسفة عن الحق، والمُنحرفة عن جادَّة الصواب، التي أوضحتها الشريعة الإسلامية وبيَّنتها؛ بسبب الفهم الخاطئ الخداج والمُمارسا ت الخاطئة المغلوطة لأحكامها ونصوصها، وإساءة العمل بمضامينها في تغيير بعض مشاهد الواقع الآسن.

إذًا يُمكن القول بأن العامل الديني له تأثيرٌ واضحٌ في التغيير من حيث إن هذا الأخير هو في ذاته عاملٌ متغيِّرٌ يتأثَّر ويَستجيب للظروف، ويتَجاوب إيجابًا وسلبًا مع العوامل المحيطة به، ومنها كما ذكرت: العامل الديني، وهذا التأثير قد يكون إيجابيًّا يَسوق التغيير على سكَّة الصَّواب، فيُؤتي أُكُله الطيِّب المرغوب، وقد يحيد به بعيدًا عن الجادَّة فيحلُّ بالمجتمع البلاء والأَرْزاء ، نسأل الله تعالى العافية.

هذا، وإن الحديث عن العامل الدِّيني وتأثيره على المجتمع يُحيلني للحديث عن الفتوى كأهمِّ مثال على العامل الدِّيني المؤثِّر في عملية التغْيير؛ وهذا مُراعاة لارتباط الفتوى بالتغيير كمُتغيِّر اجتماعيٍّ يتأثَّر إيجابًا وسلبًا بما يدور من حوله من عوامل، ومنها العامل الديني في صورة الفتوى؛ من حيث إنها - كما تقدم -: إخبار عن حكم الشريعة الإسلاميَّ ة، وتبيين لموقفِها مما يقع في المجتمع من سلوكيات وتصرُّفات فرديَّة أو جماعيَّة، إيجابية أو سلبية.

إن الفتوى المضطربة أو الشاذَّة غير المؤسَّسة على الأدلة الشرعية الصحيحة تعصف بالتغيير كمفهوم إجرائي، وتُفرغُه من مضامينه الشرعية الصحيحة، وتَنحرِفُ به بعيدًا عن أهدافه الإصلاحيَّ ة (التغيير السلبي)، وربما يُسند أمر التغيير لغير أهله، ودون مُراعاة لزمنه المناسب، وكذا دون انتظار تحقُّق شروطه وظروفه الملائمة.

أما الفتوى الشرعية الصحيحة التي تدور مع أدلة الشريعة الإسلامية وتستند إليها، وتتعاطى مع التغيير وفق شروط وضوابط وقيود الإخبار الشرعي الصحيح، فلها تأثير واضح في إصلاح حال المجتمع وانتِظام معايشه، بعيدًا عن المظاهر السلبية والخاطئة للفتوى التي لا تُراعي ضوابط التغيير الإيجابي، ولا تتجاوب مع متطلبات تحقيق غاياته ومقاصدِه، مع ما يُورثه ذلك من عواقب خطيرة.

وقد تقدَّم معنا الحديث الشريف: ((مَن رأى منكم مُنكَرًا، فليُغيِّره ...)) الحديث[5]، فعلى الرغم من أنَّ تغيير المنكر في هذا الحديث لم يأتِ في سياق إفتاءٍ أو إجابة عن استفتاءٍ، فإنه تضمَّن توجيهًا لكلِّ مَن تنصَّب للإفتاء عمومًا، ومنها الإفتاء في مسائل التغيير المرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيضاح منهجه الصحيح، وكذا توجيهًا لكلِّ مَن تهيَّأ للقيام بالتغيير إما على وجه رسميٍّ (المحتسب)، أو على وجه غير رسمي (مُتطوِّع) .

هذا، ويشتد الحديث عن مطلب تصحيح الفتوى المتصلة بمسائل التغيير خاصة إذا دار حول التغيير في المجال السياسي والسلطوي؛ كتغيير النظم السياسية القائمة بنظم أخرى بديلة، وما قد يتطلَّبه مِن استخدام لليد (أو القوة)، مع ما يُرتِّبه ذلك من آثار وخيمة قد تعود بالوبال والخسران على المُجتمَعا ت فضلًا عن أنظمتها السياسية الحاكمة، بسبب سوء التقدير والتدبير والتسيير لعملية التغيير، وهنا لا بدَّ أولًا من معرفة التغيير، هل هو جائز أم لا؟ ويكون ذلك من أهل العلم الرَّاسخين فيه، ولا يُكتفى في ذلك برأي الأفراد.

أيضًا من المهم معرفة واقع المجتمع محلِّ الإفتاء، وضرورة الاطلاع على شؤونه وأحواله، وعوائده وأعرافه، وكذا تقدير السبيل الأمثل للتغيير بعيدًا عن التخرُّص والتوهُّم والظنون، وتحديد مبتدأ التغيير ومبلغه ومنتهاه، والإفتاء بذلك بمثابة محاولة مُجْديَة في الغالب الأعم - إن رُوعيت فيها القيود الصحيحة للفتوى الشرعية - لإيجاد أرضيَّة شرعيَّة قويمة لمُمارسة التغيير، وتسويغه بأشكاله وصُوَرِه الصحيحة، بعيدًا عن أضربه غير الصحيحة، وتحت عناوين وغايات عديدة غير مُستساغة سمعًا وعقلًا، فَهْم خداج، وألسنة حِداد، ويَد تبطش بظلم دون تفرقة بين ظالم مستحِقٍّ أو مظلوم غير مستحق.

وقد عدَّ إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله من خصال من يُنصَّب للفتيا بين الناس قوله: "...الخامس ة: معرفة الناس" [6].

وقال ابن قيم الجوزية في تعليقه على هذا الشرط: "وأما قوله: "الخام سة: معرفة الناس"؛ فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإنْ لم يكنْ فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يُطبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر، له معرفة بالناس، تَصوَّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمُحقُّ بصورة المُبطِل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصوَّر الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مُبطِل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرْفياته م لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم ، فإن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله، كما تقدَّم بيانه، وبالله التوفيق"[7].

على المفتي أن يُراعي عوامل الزمان والمكان والعوائد والأحوال فيما يتعلَّق بالتغيير، بل إن مراعاة ذلك آكد؛ لأهمية التغيير في التقويم والإصلاح والنهوض والرقي والتجديد، ولخطورته كذلك إذا اشتمل على مضامين سياسية تُقارع هرم السلطة وهرم النظام الحاكم، وكذا إذا تعلق التغيير بباب السِّيَر والجهاد؛ فإنه أعظم خطرًا.

هذا، وأشير في الأخير إلى أهمية بحث موضوع التغيير وتجديد مباحثه ومطالبه، خاصَّةً في ظل ما تشهده المجتمعات الإسلامية من حراك وأحداث تحت عنوان التغيير، ومع تقديري للمُنطلَقا ت والأماني والغايات التي دعت بعض المجتمعات المسلمة أن تُغيّر؛ إلا أن ذلك جرَّ عليها متاعب، وجلب لها مثالب، ومع تقديري لذلك كله، فإنني أرى أن لكل مجتمع ثائرٍ ينشد التغيير خصوصيَّةً مكانية وزمانية وظروفًا مغ***ة تمامًا عن بقية المجتمعات التي عَنْونَتْ حراكها بالتغيير، هنا يأتي دور الفتوى في تصحيح مفهوم التغيير في هذا الجانب؛ مثلًا (الجانب السياسي) لكل مجتمع ظروفه وخصوصيته.. . وقس على ذلك.


[1] كتبه وراجعه: د. عبدالمنعم نعيمي - تخصص شريعة وقانون - كلية الحقوق - جامعة الجزائر 1.
[2] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، رقم الحديث 49، تشرَّف بخدمته والعناية به: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، 1 / 41 - 42.
[3] ينظر: ابن جرير الطبري: جامع البيان عن تأ*** آي القرآن، تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، بيروت، لبنان، ط 1، 1422 هـ - 2000 م، 7 / 502.
[4] ينظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: مصطفى سيد محمد، ومحمد السيد رشاد، مؤسسة قرطبة للطبع والنشر والتوزيع، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، جيزة، مصر، ط 1، 1421 هـ - 2000 م.
[5] سبق تخريجه في الهامش رقم (3).
[6] ينظر: ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، قرأه وقدَّم له وعلق عليه وخرَّج أحاديثه وآثاره: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مُشارك في التخريج: أبو عمر أحمد عبدالله أحمد، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، ط1، 1423 هـ، 6 / 105 - 106، ابن عقيل: الواضح في أصول الفقه، تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.
[7] ينظر: ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، 6 / 113 - 114.


د. عبدالمنعم نعيمي