الصلاح منزلة عظيمة ومرتبة جليلة تمناها وسألها الرسل والأنبياء، وحلم بها أولو الألباب، منزلة مَن نالها فاز في الدنيا والآخرة، منزلة من نالها كان وليًّا لله، فأحبه وتولى الدفاع عنه، فما هي هذه المنزلة؟
تأمَّلوا معي هذه الآيات التي تَكشف لنا عِظَم هذه المنزلة وتُجلِّي حقيقتها؛ قال الله جل وعلا عن رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام: ﴿ وَأَدْخَلْ نَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَ ا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [الأنبياء: 86]، وقال سليمان عليه السلام مُبتهلاً إلى ربه: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِ ي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْ نِي بِرَحْمَتِ كَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [النمل: 19]، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْ نِي بِالصَّالِ حِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، وقال يوسف عليه السلام: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْت َنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِ يثِ فَاطِرَ السَّمَاوَ اتِ وَالْأَرْض ِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَ ةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْ نِي بِالصَّالِ حِينَ ﴾ [يوسف: 101]، و قال أهل الإيمان من بني إسرائيل: ﴿ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَ ا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [المائدة: 84]، وقال أولو الألباب: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِ نَا وَتَوَفَّن َا مَعَ الْأَبْرَا رِ ﴾ [آل عمران: 193].


يا لَله! رسُلٌ وأنبياء أبرار وأتقياء كلهم يسألون الله جل وعلا، ماذا يسألون؟ يسألون الله أن يُدخلهم في الصالحين، يسألون الله أن يُلحقهم بالصالحين، يسألون الله أن يتوفاهم مع الأبرار!
لذا - عبادَ الله - منزلة الصلاح هي أشرف المنازل وأرفعها وأزكاها، والصالحون هم أشرف خلق الله، فمن هم الصالحون الذين تمنَّى الرسل والأنبياء أن يكونوا منهم ويَلحقوا بهم؟ وما دلالات ذلك؟


تعالوا معنا نتأمل النصوص التالية لعلَّنا نتعرَّف على إجابة هذا السؤال:
قال الله جلَّ وعلا عن بعض رسله: ﴿ وَزَكَرِيّ َا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاس َ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [الأنعام: 85]، وقال عن يونس عليه السلام: ﴿ فَاجْتَبَا هُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [القلم: 50]، وقال جلَّ وعلا عن المؤمنين من أهل الكتاب: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون َ * يُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْم ِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُ ونَ بِالْمَعْر ُوفِ وَيَنْهَوْ نَ عَنِ الْمُنْكَر ِ وَيُسَارِع ُونَ فِي الْخَيْرَا تِ وَأُولَئِك َ مِنَ الصَّالِحِ ينَ ﴾ [آل عمران: 113، 114]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِين َ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَ اتِ لَنُدْخِلَ نَّهُمْ فِي الصَّالِحِ ينَ ﴾ [العنكبوت: 9].


إذًا فالصالحون هم الرسل والأنبياء والعلماء، والمُصلحون الداعون إلى الله جل وعلا، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكَر، وهم العباد المتَّبِعو ن لهدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُحبُّون للرسل والأنبياء والدعاة والعلماء.


أما دلالات ذلك فيُمكن أن أذكر بعضها، ومن ذلك:
أولاً: إذا كان الرسل والأنبياء قد تمنوا أن يُلحقهم الله بالصالحين، وأن يدخلهم في الصالحين، فحقَّ لنا أن نتضرع إلى الله عز وجل ونلهَج له بالدعاء أن يُلحقنا بهم، وأن يُدخلنا في زمرتهم، فاللهمَّ يا حيُّ يا قيوم، أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم توفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
ثانيًا: أن المؤمن الصادق يَنبغي له أن يحبَّ الصالحين ويتقرَّب إلى الله عز وجل بمودَّتهم، وإذا فعل ذلك حقق ثمرةً عظيمةً، وفاز بالحلم الذي يتطلَّع له كل مؤمن، وذاك بأن يكون مع الصالحين يوم القيامة.


يا أيها المؤمن، إذا كان قلبك صادقًا في حبه للأنبياء والمرسلين والعلماء والمصلحين والأبرار الصالحين فبشراك بُشْراك، ثم بشراك بشراك، ثم بشراك بشراك بأن تكون معهم هناك في جنة الله، فحدِّث نفسك بجميل الوصال وطِيب اللقاء، وتأمل معي هذه القصة:
عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((وماذا أعددتَ لها؟)) قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أنت مع من أحببت))، فطار بها أنس، وطار بها صحابة رسول الله فرحًا وسرورًا وابتهاجًا؛ قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتَ مع مَن أحببت))، قال أنس: "فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبِّي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم"؛ متفق عليه.


وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحبَّ قومًا ولم يَلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))؛ متفق عليه.


قال القرطبي رحمه الله: وهذا الذي تمسَّك به أنس رضي الله عنه يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلَّقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصِّرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين.


وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن الملائكة يُحبون صالحي بني آدم، ويفرحون بهم.[1].


وأعظم الصالحين منزلة اليوم هم العلماء ورثة الأنبياء، والدعاة والمصلحون، والآمرون بالمعروف الذين يقومون بنَشر الخير بين الناس.
وما أجمل قول علي رضي الله عنه: محبَّة العلماء دِين يُدان الله به.
ولكن لماذا محبة العلماء دِين يُدان الله به؟
يُجيب عن ذلك الإمام ابن القيم فيقول: "فإن الله سبحانه عليم يحبُّ كل عليم، وإنما يضع علمه عند مَن يُحبه، فمَن أحب العلم وأهله فقد أحب ما أحب الله، وذلك مما يُدان به"[2].


نقول ذلك وكلنا طمع أن يُحلقنا الله بالصالحين ويدخلنا فيهم بمنِّه وكرمه، وأن تمتلئ قلوبُنا حبًّا لهم وإجلالًا لهم، وأن يتحوَّل هذا الحب إلى اقتداءٍ وتأسٍّ.


تنبيه: نقول ذلك ونحن في زمنٍ كَثُرت فيه الفِتَن، وأعداء الدِّين يجهدون كل الجهد ليَحولوا بين الناس وبين العلماء، ويحولوا بين الناس وبين الدعاة المصلحين، لماذا؟ حتى يحولوا بينهم وبين الصلاح وفعل الخير، ولذا دأب أعداء الدين على مر العصور على تشويه صورة الصالحين من الدعاة والمصلحين بكل ما أوتوا من قوة، حتى يفصلوا الناس عنهم، فإذا لم يتلقَّ الناس عن العلماء الربانيين تلقوا عن أهل الزَّيغ والضلال والانحراف، فوقعوا في الفتنة والزيغ والضلال والغلو والانحراف، ففسدوا وأفسدوا، وكانوا سببًا لشقاء العباد والبلاد، وما نراه اليوم من تفجير وتخريب وقتل ما هو إلا ثمرة خبيثة لفصل الناس عن العلماء، وتزهيدهم في التأسِّي بهم والصدور عن توجيههم، وإلا والله لو اتبعوا سنن العلماء وهديهم لحقَّقوا النجاة لأنفسهم ومجتمعاتهم .


ثالثًا: الحذر كل الحذر من معاداة العلماء والدعاة المصلحين، وعدم الخوض في أعراضهم؛ فقد حرَّم الله ذلك، وجعل فاعله محاربًا له سبحانه فقال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب)).
قال الإمام السعدي: مَن كان مُتصديًا لعداوة الرب ومحاربة مالك الملك فهو مَخذول، ومن تكفَّل الله بالذبِّ عنه فهو منصور[3].
وقال الحسن بن أدهم: هل لك بمُحاربة الله من طاقة؟[4]
مَن ذا يقوى على محاربة الله جل وعلا؟! تأمَّل قول الله جل وعلا كما ذكر عن رسوله: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِ ينَ ﴾ [الأعراف: 196].


علينا إخوتي الكرام أن نصونَ ألسنتَنا عن تجريح العلماء والخَوض في أعراضهم، وأن نملأ قلوبنا حبًّا لهم وأن نتأسَّى بهدْيهم لعلَّ الله أن يُحلقنا بهم ويَحشرنا في زمرتهم.
سؤال محيِّر: الصالحون الذين تمنَّى الرسل والأنبياء أن يَلحقوا بهم ويُدخلهم الله فيهم، هل لهم أعداء؟
نعم؛ لهم أعداء، فمَن هم يا تُرى؟


تعالوا معنا إخوتي الكرام نَستعرض بعض أعداء الصالحين:
1- الكفار والمنافقون من زمن الرسل والأنبياء إلى يومنا هذا، قد امتلأت قلوبهم حقدًا وبغضًا وكراهية للإسلام وأهله، فهم يُحاربون الإسلام في صورة العلماء والدعاة والمصلحين، وهم يجهدون ليَحولوا بين الناس وبين العلماء، فلا يألون جهدًا في تشويه صورة العلماء والدعاة والمصلحين حتى يُنفِّروا الناس منهم ويزهِّدوهم في علمهم، وأخطرهم أهل النفاق الذين قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم محذرًا له منهم: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُ مْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُه ُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِ مْ كَأَنَّهُم ْ خُشُبٌ مُسَنَّدَة ٌ يَحْسَبُون َ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْه ُمْ قَاتَلَهُم ُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون َ ﴾ [المنافقون: 4].


الله جلَّ وعلا ينبِّه نبيَّه ويُحذره ويُخوِّفه أن ينخدع بقولهم، فيقول له: ﴿ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِ مْ ﴾ [المنافقون: 4]، تأمل خاتمة الآية: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْه ُمْ قَاتَلَهُم ُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون َ ﴾.


أهل النفاق يَجهدون في تشويه صورة العلماء والمصلحين، فيتصيَّدون أخطاءهم وزلاتهم، فينشرونها بين الناس، ويزيدون عليها كذبًا وزورًا حتى يَنخدِعَ الناس بهم فيَنفروا من العلماء والمصلحين، فيكونوا فريسةً سهلةً لأهل الزيغ والفساد.


نحن في زمن يَموج بالفِتَن، وقد وظَّف أهل النفاق الإعلامَ فيه توظيفًا خطيرًا، حتى أصبح أداةً لمسخ العقول وإفساد القلوب وإضلال الناس وإبعادهم عن أهل الخير والصلاح بكل وسيلة أتوا؛ ﴿ قَاتَلَهُم ُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون َ ﴾.


2- أصحاب الشهوات والملذات، الذين يُريدون أن يرتعوا في الشهوات والملذات المحرَّمة، ويرون أن العلماء والمصلحين يَحولون بينهم وبين تحقيق شهواتهم وأهوائهم، فناصبوهم العداء، وقديمًا قال الله عن قوم لوط: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوه ُمْ مِنْ قَرْيَتِكُ مْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّر ُونَ ﴾ [الأعراف: 82].


3- أهل البدع والأهواء، الذين تشربت قلوبهم البدعة، وعلموا علم اليقين أن الذي ينغِّص عليهم بدعتهم هم العلماء والدعاة الذين يتبعون سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ويُبيِّنون بطلان ما هم عليه من البدعة والخُرافة، ولذا ناصَبوهم العداء.


4- المتعالِمو ن الذين نالوا بعض العلم، ولكنهم أرادوا الشُّهرة، فجعلوا طريقهم إلى ذلك الخوض في أعراض العلماء والتجريح فيهم، وربما دفَعهم لذلك الحسدُ، عياذًا بالله من ذلك.


5- بعض أهل الخير والصلاح الذين أرخَوا آذانهم وأبصارهم للمنافقين، فخُدعوا بمكرهم وكيدهم، والْتبَسَت عليهم الأمور، فوقَعُوا في العلماء والمصلحين، وقد قال الله محذرًا للصحابة رضي الله عنهم من كيد المنافقين: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُون َ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِ مِينَ ﴾ [التوبة: 47].


اللهمَّ توفَّنا مُسلمين، وألحقنا بالصالحين، اللهمَّ أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم جنِّبنا الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، اللهمَّ وفِّقنا للحق والهدى، وثبِّتْنا عليه حتى نلقاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.


[1] فتح الباري (7 / 29).
[2] مفتاح دار السعادة؛ للعلامة ابن القيم (1 / 435).
[3] بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، ط الرشد (ص: 97).
[4] جامع العلوم والحكم، ت: الأرنؤوط (2 / 335).




أ. شائع محمد الغبيشي