من عجيب ما قرأت قديما قصة رجل جزار، أنهى عمله في آخر الليل ثم رجع إلى بيته، وهو في الطريق مر في زقاق مظلم، ارتطم بشيء فوقع عليه فتحسس فإذا يده تقع على سكين مغروسة في قلب شاب، والشاب ميت، وبينما هو كذلك ساق القدر رجلين ليمرا من هذا المكان فرأياه على هذا الحال.. يده على السكين وشاب قتيل.
رفع أمره إلى القضاء، فحوكم وحكم عليه بالإعدام.


إلى هنا والأمر بالنسبة لي ولك عجيب؛ أنا وأنت نتعجب من تقدير الله الذي ساقه إلى هذا الزقاق، وإلى الشاب المقتول، وساق الرجلين ليشهدا عليه، ويعاقب على ذنب لم يقترفه، وقتيل لا يعرفه.


لكن العجب كل العجب فيما سيأتي لرفع العجب.
عندما قدموه ليعدموه قال: أيها الناس! والله ما قتلت هذا الشاب، ووالله ما تقتلونني به، وإنما تقتلونني بالأم وولدها!!
ثم جعل يقص قصة غريبة يقول:
كنت وأنا شاب في مقتبل عمري قد تعلقت بفتاة أحببتها حتى ملكت علي كل أركاني، وكانت كل أمنيتي في الحياة أن أتزوجها، غير أني كنت فقيرا ضيق الحال، ليس عندي إلا ما يدره علي قارب أنقل الناس عليه من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى..
وتقدم لها رجل ثري ميسور الحال فزوجوها منه، وأظلمت الدنيا في عيني، وأغلقت أبوابها في وجهي.


وذات ليلة وأنا بالقارب إذا أنا بامرأة معها طفل تريد أن أنقلها إلى طرف النهر الآخر، فلما ركبت إذا بها صاحبتي، ومعها طفلها من زوجها.. فتذكرت أيام الشباب وأخذتني غيرة شديدة، ولما توسطت بها النهر جاءني شيطاني فراودتها عن نفسها فأبت علي، فقلت إما تقبلي وإما ألقيت الطفل في النهر، وانتزعته من بين يديها، فأبت علي؛ فأخذته فألقيته في النهر أمام عينيها، وعدت أراودها عن نفسها فأبت؛ فقتلتها وألقيتها في النهر.


وكنت بعد ذلك كلما مررت بهذا المكان تتخيل لي صورتها وابنها، فكرهت هذا العمل وتركت القارب والنهر، ثم ذهبت أبحث عن عمل آخر، فعملت جزارا، وعشت سنين بعد هذا الحادث حتى كدت أنساه، حتى كانت الليلة التي أنهيت فيها عملي، ورجعت فيها إلى بيتي فمررت بالزقاق والشاب.. وكان ما كان.


ميزان العدل الحكمة
أيها الأحبة.. كل شيء في هذا الكون إنما يجريه الله تعالى على قانون الحكمة، لأن من أسمائه سبحانه "الحكي م". ومقتضى هذا الاسم ألا يكون في هذا الكون كله شيء على خلاف هذا الأمر.


وهذا الاسم أعني "الحكي م".. يثبت ـ أولاـ لله تعالى كمال الحكم؛ كما قال سبحانه: {إن الحكم إلا لله}، وقال: {والله يحكم لا معقب لحكمه}، وقال: {فالحكم لله العلي الكبير}، وقال: {أفغير الله أبتغي حكما}، وقال: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}، وقال: {ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}.


غير أنه وإن كان سبحانه هو الحاكم وحده، إلا أن حكمه يجري على ميزان العدل المطلق، وقانون الحكمة التامة، لأنه سبحانه خير الحاكمين، وأحكم الحاكمين، وأحسن الحاكمين. كما قال سبحانه: {أليس الله بأحكم الحاكمين}، وقال: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.


والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة، فالرحمة في موضع الرحمة حكمة، والعقوبة لمستحقها حكمة، كما أن الإحسان إلى أهل الإحسان حكمة.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا .. مضر، كوضع السيف في موضع الندا.


الحكمة في الخلق والكون
والحكيم هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، ويضعها مواضعها، وينزلها منازلها، فلا يتوجه إليه في خلقه نقص ولا قدح، ولا في شرعه عيب ولا ذم. فالحكمة تشمل إبداعه وخلقه، وتشمل قضاءه وقدره، وأمره في خلقه، كما تشمل دينه وشرعه وأمره ونهيه.
والحكمة العليا على نوعين أيـ .. ضا حصلا بقواطع البرهان
إحــكام هـذا الخــلق إذ إيجـاده .. في غاية الإحــكام والإتقـان
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه..أيضـ ا وفيها ذانك الوصفان.


فالله خلق هذا الكون بأحسن نظام، ورتبه بأكمل إتقان فـ {فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير}(المل ك:3، 4).


الشمس لو اقتربت قليلا مات الناس من الحر وهلكت الحياة، ولو ابتعدت قليلا مات الناس من البرد وهلكت الحياة.
والقمر لو اقترب قليلا، زاد المد، وفار الماء، وغرقت الأرض. ولو ابتعد قليلا كان الجزر، وغار الماء، ولم ينتفع الناس منه بشيء وجفت الأرض {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون}(يس :40).


هذا الإنسان أعجوبة الحياة فيه من التدابير والتوازن والعجائب ما يجعل العقل يقر للرب بمنتهى الحكمة والقدرة، وأعجبها وأعلاها هذا العقل الفريد وقدراته الفائقة مع قلة الحجم وصغر الحيز والمكان، ومن العجائب أن يختلف ماء العين عن ماء الأذن عن ماء الفم، فماء الأذن مر، وماء العين مالح، وماء الفم كما تعلمون، ذلك أن لكل منها وظيفة تختلف عن الآخر {صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون}(ال نمل:88)، وصدق الله إذ يقول: {وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(ال ذاريات:20، 21) .


الحكمة في القضاء والقدر
وكما أن حكمة الله تعالى بادية في خلقه، كذلك هي بادية في قضائه وقدره، وتصريفه لأمور عباده وخلقه، كلها تجري على ميزان العدل وقانون الحكمة.
غير أن هذه الحكمة قد تكون خافية؛ فيتبرم الناس ويتسخطوا، ولو علموا الحقيقة وحسن تدبير الله لهم لرضوا ولأذعنوا.
وقد يبدي الله من هذه الحكم شيئا يراه الإنسان بعد زمان، فلا يملك إلا أن يحمد ربه على جميل صنعه فيه وعظيم رحمته به.
وقد ضرب الله لنا في كتابه مثلا بسيطا لتسكن إليه قلوب أهل الإيمان، بعد أن أطلعهم على شيء يسير من خفايا حكمته يكون دليلا على ما سواه.


ففي قصة موسى والخضر.. كان موسى عليه السلام يرى ظاهر القضاء والأفعال، فكان منه ما كان، ولو كان يعلم من العواقب والحكمة ما أطلع الله عليه الخضر لرضي وسكن.


هذا حالنا أيها الأحبة تماما.. لا نرى من الأقدار إلا ما رآه موسى وهو ظاهرها، قد يموت للواحد منا ولد في حادث سيارة أو حرق أو غرق أو مرض مات منه، أو مات حتى على فراشة، فنتبرم ونتسخط. مع أن هذا الولد ربما يكون هو هو الولد الذي قتله الخضر، أعني شبهه، فربما لو كبر لكان سببا في كفر أبويه أو دخولهما النار، أو عقهما وأساء إليهما بما يكسر قلوبهما، أو يكون في علم الله أنه يضل ويشقى، فيقبضه صغيرا ليرحمه ويرحم والديه.. {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما}(الكه ف:80، 81).


وكذا الأحداث في الأموال تكون على هذا المنوال، حالها كحال السفينة، يعرضها الله إلى التلف ظاهرا ليحفظها باطنا، أو يحفظ صاحبها فلا يهلك بسببها، وفي بعض الآثار: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله".


الحكمة في الشريعة
وكما كانت الحكمة تملك ناصية الخلق والإيجاد، وكذا تحكم أمر القضاء والقدر، فكذلك هي تحيط بشرع الله تعالى وأحكامه، ولو رآها الناس على غير قانون الحكمة لعجز عقولهم، وقصور فهمهم، وقلة إحاطة علمهم، فربما اعترضوا بجهل على حكمة الحكيم الخبير، ولكن تبقى الحكمة تحيط بأمر الله سبحانه وشرعه.


وأعظم مثال على ذلك ما شرعه الله من الحدود ومنها حد السرقة، وهي قطع يد السارق بشروطها ومنها أن يبلغ النصاب، وهو دينار ونصف من الذهب، هذا في باب الحدود، فمن سرق ما قيمته ربع دينار من الذهب قطعت يده بأمر الشرع {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم}(الما ئدة:38). مع أن الشارع في باب الجنايات جعل دية اليد على من قطعها نصف دية الإنسان وهي خمسمائة دينار من الذهب. فجاء قوم لم يعجبهم هذا وقالوا:
يد بخمس مئين عسجد وديت .. .. ما بالها قطعت في ربع دينا
ر تناقض ما لنا إلا السكوت له .. .. وأن نعوذ بمولانا من النار


أي كان الواجب إما أن تكون الدية كنصاب السرقة ربع دينار، وإما أن يكون نصاب السرقة كالدية خمسمائة دينار ذهبا، فلا يقطع إلا من سرق هذا المبلغ. وظنوا أن هذا هو مقتضى الحكمة.
فرد عليهم العلماء قولهم: فقال بعضهم: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت".
وقال عبد الوهاب المالكي:
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها .. .. ذل الخيانة فافهم حكمة الباري.
وهو بمعنى الكلام فوقه.


ورد عليه عبد الوهاب الإنطاكي مبينا العلة.. فقال:
***** العضو أغلاها، وأرخصها .. .. ***** المال فافهم حكمة الباري


أي أن الله لما أراد ***** أعضاء الناس جعل الدية عظيمة وكبيرة نصف دية إنسان، فمن علم أنه إذا قطع يد إنسان سيدفع هذا المبلغ الكبير؛ أمسك يده عن أيدي الخلق، وامتنع عن أذى الناس؛ فتحفظ الأيدي والأعضاء، ولو جعل الله دية اليد ربع دينار لتجرأ الناس على قطع أيدي بعضهم بعضا.


ثم لما أراد الله أن يحفظ أموال الناس، جعل نصاب القطع في السرقة قليلا، ليمتنع الناس عن مد أيديهم إلى أموال غيرهم، فمتى علم العبد أنه إذا سرق هذا المبلغ الزهيد قطعت يده، أمسك يده عن قليل مال الناس وكثيره ***** ليده من القطع، فكان شرع الله هو الحكمة المطلقة، وهو الخير كله والبركة كلها، وهو الحكم الذي تنصلح به حياة الناس وتضمن به حقوقهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(تب ارك:14)


فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على شرع الرحمن، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

منقول