الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين.

وبعد:
فإن من أهم ما يشتغلُ به المكلَّف بعد أداء الفرائض طلبَ العلم الشرعي، والإفادة منه، وأن يأخذ منه الحلول والمخارج لما يصيب الناس في حياتهم اليوميَّة من المشكلات والمعوِّقا ت، في الوقت الذي يكون الخلافُ الفقهي كفيلًا بالحلِّ المناسب لهذه المستجدَّا ت، وقد تناقل العلماء أقوالًا في مدح وذم الخلاف، فمن الأقوال في مدح الاختلاف:
1- قال الإمام مالك (ت: 179هـ) لهارون الرشيد: "يا أمير المؤمنين، إن اختلاف العلماءِ رحمة من الله على هذه الأمة، كلٌّ يتبع ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدًى، وكل يريد الله".

2- وقال أبو يزيد البسطامي (ت: 261هـ): "عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئًا أشدَّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لَشقيتُ، واختلاف العلماء رحمةٌ، إلا في تجريد التوحيد، ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غير".

3- وقال ابن قدامة (ت: 620هـ): "جعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتَّفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادةُ باقتفاء آثارهم، ثم اختصَّ منهم نفرًا أعلى أقدارهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم؛ فعلى أقوالهم مدارُ الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام".

4- وقال ابن القيم (ت:751هـ): "وقوعُ الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم، وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض وعداوته".

5- وقال المناوي (ت: 1031هـ): "فاختل افُ المذاهب نعمةٌ كبيرة، وفضيلة جسيمة خُصَّت بها هذه الأمة".

6- وتناقل غيرُ واحد: (إن اختلافَ هذه الأمة رحمة من الله لهم، كما أن اختلاف الأمم السابقة كان لها عذابًا وهلاكًا)، و"إجماع هم حجَّة، واختلافهم رحمة واسعة". في الوقت الذي نصَّ فيه غير واحد من العلماء على ذمِّ الاختلاف؛ منها:
1- قال المزني (ت:264هـ): "ولو كان الاختلافُ رحمة، لكان الاجتماع عذابًا؛ لأن العذاب خلاف الرحمة".

2- قال ابن حزم (ت:456هـ): "وهذا من أفسدِ قول يكون؛ لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطًا، وهذا ما لا يقوله مسلم؛ لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وأما الحديث المذكور فباطلٌ مكذوب، من توليد أهل الفسق".

3- وقال الدكتور عبد الكريم زيدان ( ت: 1435هـ): "الائت لاف والاتفاقُ خير من الاختلاف قطعًا، حتى في المسائل الاجتهادية السائغ الاختلاف فيها، فلا يجوز الحرص على الاختلاف، والرغبة فيه، وإن كان سائغًا؛ لأن معنى ذلك جوازُ تعمُّده ووقوعه، ومعنى ذلك جوازُ مخالفة مقتضى الدليل الشرعي؛ حتى يحصل الخلاف، وهذا باطل قطعًا، وأيضًا فإن من شروط الاختلاف السائغ تجريدَ القصد للوصول إلى الحق والصواب، وهذا لا يتفقُ مع الرغبة في وقوعه".

وتوجيه الأقوال في ذلك على وجهين:
الأول: لا تنطلقُ السَّعة والرحمة إلى ذات الاختلاف، وإنما إلى غايةِ ومرامي الاختلاف، وهو أن جوازَ الاجتهاد في الفروع للوصول إلى مرادِ الشارع كان سَعَة ورحمة؛ إذ لما جاز لهم الاجتهاد في ظنيَّات دلالة النصوص، أو عند عدم النصِّ فيما يعرض لهم من حوادث، وجاز لهم العملُ بما أوصلهم إليه اجتهادهم؛ جاز ذلك لمن بعدهم؛ فكان في ذلك توسعة على الأمة ورحمة بها، وإلا لَضاق على العلماء ومَن يسألهم كثيرٌ من الأحكام.

أما ذاتُ الخلاف الذي وقعَ بينهم، فليس فيه توسعةٌ، وإنما هو خطأ وصواب، وإن كانوا يُعذرون فيه ولا يؤثَّمون بسببه؛ لأنهم لم يقصدوه ولا تعمدوه، فالتوسعة كانت من فتحهم باب الاجتهاد، أو في العمل بما أدَّى إليه اجتهادُهم، لا في ذات الخلاف بينهم، وعليه: فالسَّعة والرحمة تكمن في فتح باب الاجتهاد، وعمل المجتهد بما أدَّى إليه اجتهاده، وتقليد الناس له في ذلك؛ ظنًّا منهم أنهم أخذوا بالراجح، وإن كان في ذاته مرجوحًا، فيكون في خفاء الحكم الشرعي عنهم رحمة بهم، وتوسعة عليهم؛ لما في ظهوره من الشدة والتضييق عليهم.
والخلاف وإن كان في ذاته شرًّا، فإنه متى ما كان المختلفون يرجعون فيه إلى الكتاب والسنة.

الثاني: إن الاختلاف رحمة، وهو أن أصحاب هذا الاختلاف مرحومون، وليس أن الاختلاف ذاته هو المطلوب، ولا أنه في ذاته هو الرحمة، وإنما أصحابه مرحومون، بمعنى: أن مَن اجتهد في الوصول للحقِّ، ولم يقصر، فقد أدَّى ما عليه، فإن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، فليس الاختلاف نفسه رحمةً أو أنه مطلوب شرعًا، بل إن استطعنا أن نعدم هذا الخلاف وننهيه فهو الأفضل، وحتى الخلاف السائغ إن استطعنا أن نلغيَه بأن نتناظر، ونتناقش في جوٍّ من الود والمحبة إلى أن نصل إلى قول واحد - فهذا أفضل وأحسن؛ لأن اجتماع الناس على قول واحد أفضلُ لهم من الاختلاف، لكن المعنى هو أن أصحاب هذا الاختلاف لا يعذبون طالما أنهم بذلوا وُسعَهم في معرفة الحق، كلٌّ حسب علمه وقدرته، والحق واحد لا يتعدَّد، ووجود هذا النوع من الاختلاف له حكمة كونية لا حكمة شرعية، وأسباب الاختلاف تعود إلى اختلاف الأفهام والقدرات وطرق التعليم في بداية النشأة، وهذه أمورٌ قدرية فالمطلوب شرعًا الاتفاقُ ما أمكن، والبحث عن الحق قدرَ الطاقة، وبالتالي فأصحاب هذا النوع من الاختلاف مرحومون.

إذًا الإنسان المجتهد أو العامي إذا قلَّد الأوثقَ من أهل العلم في نظره فلا يظنُّ أنه على خطر وعلى شفا هَلَكة إن ظهر أن هذا القول خطأ، أو كان هذا القول في حقيقته عند الله خطأ، بل طالما قد عمل به بعض السلف من الأئمة المعتبرين فهو مرحوم ومأجور أجرًا واحدًا أو أجرين، فكان هذا الخلاف من هذه الحيثية رحمةً، وليس أن الخلاف ذاته رحمة، ولا أنه مطلوب.


د. مصعب سلمان أحمد السامرائي