الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فإن علم الحديث من أشرف العلوم الإسلامية حيث أقيم بنيانه لغاية عظيمة، وأغراض جليلة، فتم بذلك حفظ الدين الإسلامي من التحريف والتبديل؛ حيث نقلت الأمة الإسلامية الحديث النبوي بالأسانيد، وميزت به الصحيح عن السقيم، فلولاه لالتبس الحديث الصحيح بالضعيف و الموضوع، ولاختلط كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكلام غيره.

هذا وسوف أتناول في هذا البحث نوعاً من أشرف أنواع علوم الحديث، ويتعلق الأمر بمصطلح نقدي يندرج في علم معرفة المصطلحات ألا وهو "الحدي ث الصحيح" تحت عنوان: "مباحث في الحديث الصحيح" وقد قسمت هذا البحث إلى مباحث، وتحت كل مبحث مطالب، على النحو الآتي:
المبحث الأول: تعريف الحديث الصحيح وشروطه وأقسامه ومثاله
المطلب الأول: تعريف الحديث الصحيح
المطلب الثاني: شروط الحديث الصحيح
المطلب الثالث: أقسام الحديث الصحيح
المطلب الرابع: مثال مفصل في الحديث الصحيح
المبحث الثاني: اصطلاحات عند العلماء حول الصحيح
المطلب الأول: صحيح الإسناد
المطلب الثاني: أصح شيء في الباب
المبحث الثالث: مصادر الحديث الصحيح
المطلب الأول: صحيح البخاري
المطلب الثاني: صحيح مسلم
المطلب الثالث: الكتب المستخرجة على الصحيحين، وكتب الحديث التي التزم فيها الصحة
المبحث الرابع: المفاضلة بين الصحيحين
المطلب الأول: ترجيج الجمهور لصحيح البخاري على صحيح مسلم
المطلب الثاني: ترجيح بعض المغاربة لصحيح مسلم على صحيح البخاري
المبحث الخامس: مراتب الحديث الصحيح وأصح أسانيده
المطلب الأول: مراتب الحديث الصحيح
المطلب الثاني: أصح الأسانيد.
فأقول بالله استعين، وما توفيقى إلا به، عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
••••


المبحث الأول تعريف الحديث الصحيح، وشروطه، وأقسامه، ومثاله
المطلب الأول: تعريف الحديث الصحيح:
إذا أورد المحدثون لفظة الصحيح فإنها تنصرف إلى الحديث الصحيح لذاته، وإنما وضعوا هذا القيد عند تناولهم للحديث الصحيح لغيره.
تعريف الحديث الصحيح:
عرف ابن الصلاح الحديث الصحيح بقوله:" هو الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا"[1].

وتابع ابن كثير ابن الصلاح في تعريفه مع بعض الإيضاح حيث قال:" هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى اله عليه وسلم- أو إلى منتهاه من صحابي أو من دونه ولا يكون شاذا ولا معللا بعلة قادحة"[2].

واختصر الإمام النووي تعريف ابن الصلاح فقال:" هو ما تصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة"[3].

المطلب الثاني: شروط الحديث الصحيح:
من خلال التعريفين السابقين نتبين الشروط التي تشترط في الحديث الصحيح وهي:
1- اتصال السند، ومعناه: أن يتلقى الحديث كل راو من رواته عن الذي فوقه دون أن يسقط أحد رجال السند، وبهذا الشرط يخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل، والمدلس، وغيرها من الأنواع التي لم يتصل السند فيها.

2- اتصاف جميع الرواة بالعدالة، والعدالة هي: الاستقامة والصلاح، وهي في اصطلاح القوم "ملكة تحمل على ملازمة التدين والمحافظة على التقوى والمروءة،م ما يبعث على الثقة بصدقه وأمانته.
ولا يخفى أن التقوى لا تتم إلا باتباع الأوامر واجتناب النواهي، والسلامة من خوارم المروءة.

3- اتصافهم بالضبط: والضبط: هو عبارة عن حالة مصاحبة للراوي، تحمله على التيقظ وعدم الغفلة وحفظ ما تحمله إلى وقت الأداء، سواء من ذاكرته، أو كتابه، ومن الضبط تمام الفهم للمروي، حتى إذا حدث بالمعنى لم يحله.

4- السلامة من الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الراوي الثقة لمن هو أرجح منه من الرواة، مع عدم إمكان الجمع بين ما اختلف فيه.

5- السلامة من العلة: أي خلو الحديث من وصف خفي يقدح فيه، مع أن ظاهره السلامة منه ولكن نقاد الحديث يستطيعون معرفة ما خفي مما يقدح فيه فيبرزونه.
ومثاله: رواية الراوي للحديث الموقوف مرفوعا، أو رواية الراوي عمن عاصره بلفظ )سمعت ( والحال أنه من يسمع منه شيئا.

المطلب الثالث: أقسام الحديث الصحيح:
ينقسم الحديث الصحيح إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره.
فالصحيح لذاته هو الذي اشتمل على أعلى صفات الق***، وهو الحديث الذي سبق تعريفه.
والصحيح لغيره: هو الحديث الذي لم تتوفر فيه أعلى صفات الق***، كأن يكون راويه العدل غير تام الضبط، فهذا الحديث دون الحديث السابق، فلو عضد هذا الحديث طريق آخر مثله يكون صحيحا لغيره فالصحيح لغيره ما صح لأمر أجنبي عنه، إذا لم يشتمل من صفات الق*** على أعلاها، كالحديث الحسن إذا روي من عدة طرق فإنه يرتقي بما عضده من درجة الحسن إلى درجة الصحة. [4]

المطلب الرابع: مثال مفصل في الحديث الصحيح:
ما رواه الترمذي في شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في صفة شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: سقيتُ النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب، وهو قائم"[5].

فهذا حديث صحيح قد استوفى شروط الصحة، فالترمذي صرح بالسماع من شيخه علي بن حجر، وعلي بن حجر صرح بالسماع من شيخه عبد الله بن المبارك، أما عنعنة ابن المبارك في ر****ه عن شيخه عاصم الأحول فهي محمولة على الاتصال هنا ؛ لأنَّ ابن المبارك سماعه معروف من عاصم ور****ة عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكتاب النسائي، وهو يذكر في تلاميذ عاصم، وعاصم مذكور في شيوخ ابن المبارك، وهو غير مدلسٍ، وكذلك عنعنة عاصم عن الشعبي محمولة على الاتصال فعاصم ليس مدلساً ومعروف بالرواية عن الشعبي ور****ه عنه في الكتب الستة، والشعبي من شيوخ عاصم، وعاصم من تلاميذ الشعبي، وكذلك الشعبي في ر****ه عن ابن عباس فالشعبي ليس مدلساً وهو معروف بالرواية عن ابن عباس ور****ه عنه في الكتب الستة.

فمن خلال هذا العرض السريع يتبين لنا أنَّ هذا الحديث قد استوفى شرط الاتصال.

أما الشرط الثاني والثالث فعليُّ بن حجر قال عنه ابن حجر في التقريب ( 4700 ): (( ثقة حافظ )). فهذا قد جمع بين العدالة والضبط.

أما عبد الله بن المبارك فقد قال عنه الحافظ في التقريب ( 3570 ): (( ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير )). فهذا أيضاً قد جمع بين العدالة والضبط.

أما عاصم بن سليمان الأحول فقد قال عنه الحافظ بالتقريب ( 3060 ): (( ثقة )). فكذلك قد جمع بين العدالة والضبط.

أما الشعبي فهو عامر بن شراحيل الشعبي فقد قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب ( 3092 ): (( ثقة مشهور فقيه فاضل )). فكذا قد جمع بين العدالة والضبط.

فالحديث الآن قد استكمل ثلاثة شروط، وهي: الاتصال والعدالة والضبط ؛ فصار إسناد الحديث صحيحاً، وبقي علينا أنَّ نبحث هل في الحديث شذوذاً أو علة ؟ فبعد البحث لم نجد في الحديث شذوذ ولا علة فصار الحديث صحيحاً.

المبحث الثاني: اصطلاحات عند العلماء حول الصحيح
المطلب الأول: صحيح الإسناد:
قد يعدل نقاد الحديث عن قولهم: " حديث صحيح" إلى قولهم: "صحيح الإسناد" قاصدين من ذلك الحكم بصحة السند، من غير أن يستلزم صحة المتن؛ لجواز أن يكون المتن شاذا أو به علة، وإذا أرادوا صحة الحديث سندا ومتنا أطلقوها دون تقييد فقالوا: "حديث صحيح".

المطلب الثاني: أصح شيء في الباب:
لا يلزم من هذه العبارة في مصطلحهم صحة الحديث؛ فإنهم كثيرا ما يوردونها في حديث رجح على أحاديث أخرى من نوعه، ولكنها أقلها ضعفا.[6]

المبحث الثالث: المصنفات في الصحيح
من أسبق كتب الحديث تصنيفا كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس (ت179هـ) غير أنه كتاب على جلالة قدره مزج فيه صاحبه بين الأحاديث الصحيحة والمرفوعة والبلاغات وأقوال الصحابة والتابعين ليسعفه إلى استنباط الأحكام الفقهية، فجاء كتابا جامعا للحديث والفقه معا، وهذا ما جعل الكثير من علماء الحديث يقرون لمالك بفضله في ريادة الجمع، غير أنهم إن أرادوا أن يذكروا الصحيح المجرد ذكروا صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم.

المطلب الأول: صحيح البخاري:
قال إبراهيم بن معقل النسفي: " كنا عند إسحاق ابن راهويه فقال: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي- صلى اله عليه وسلم - قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح".

قال أحد نقاد الحديث: وهذا يدل على عقلية مبتكرة مبدعة؛ إذ أخذت هذه الكلمة منه هذا الاهتمام للعمل على تأليف كتابه[7]

ويذكر البخاري أنه رأى في المنام وكأنه واقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيده مروحة يدب بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل أحد المعبرين فذكر له أنه يدب عنه الكذب فكانت هذه الرؤيا حافزا آخر له على إخراج الجامع الصحيح[8]

والبخاري لم يلتزم في كتابه رواية كل حديث صحيح ثبتت عنده صحته، فقد نقل ابن الصلاح عنه قوله: "ما أدخلت في كتابي هذا (الجامع) إلا ما صح وتركت من الصحاح مخافة الطول"[9]

وقد ذكر صاحب علوم الحديث أن جميع ما في صحيح البخاري يصل إلى سبعة آلاف حديث ومائتين وخمسة وسبعون حديثا (7275) وبحذف المكرر أربعة آلاف.

منهاج البخاري
قصد البخاري في صحيحه إلى إبراز فقه الحديث، واستنباط الفوائد منه، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم لأبواب الكتاب (لعناوينه) حتى قيل: فقه البخاري في تراجمه.
وهذا ما جعله يذكر بعض الأحاديث بحذف إسنادها أو بعضه - وهو ما يسمى بالأحاديث المعلقة- ثم جعل هذه التراجم في بعض الأحيان مستخلصة من أقوال الصحابة، أو فتاوى التابعين، أو خلاصة ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية.

قال الإمام السيوطي في التعقيب على ذكر معلقات البخاري: " وأكثر ما في البخاري من ذلك - المعلقات- موصول في موضع آخر من كتابه، وإنما أورده معلقا اختصارا ومجانبة للتكرار"[10]

المطلب الثاني: صحيح مسلم:
تتلمذ الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ، على البخاري وأفاد منه ولازمه، وكان يجل أستاذه وشيخه البخاري؛ حتى قال له يوما:" دعني أقبل رجلك يا إمام المحدثين وطبيب الحديث وعلله"[11]
قال مسلم: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا؛ إنما وضعت ما أجمعوا عليه"[12].

منهاج مسلم
قصد الإمام مسلم إلى ذكر الأحاديث بأسانيدها الصحيحة، ثم كان يتبعها بما يليها في القوة والصحة، وقد أشار في مقدمة صحيحه أنه قسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.
الثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان.
الثالث: فلم يعرج عليه.

قال مكي بن عبدان: سمعت مسلما بن الحجاج يقول: " عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار إلى أن له علة تركته"[13].

وذكر السيوطي أن الإمام مسلما ألف صحيحه سنة مائتين وخمسين هجرية، وذلك استنادا إلى رواية أبي الفضل أحمد بن سلمة بعد تصحيحها"[14].

وذكر الإمام النووي أن مجموع أحاديث مسلم بحذف المكرر نحو أربعة آلاف حديث.

قال محمد بن بشار الحافظ - من شيوخ البخاري-: "حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى"[15].

قال النووي في التقريب: " والصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير"[16].

المطلب الثالث: الكتب المستخرجة على الصحيحين، وكتب الحديث التي التزم فيها الصحة
من العلماء من يضيف إلى مصادر الصحيح:
أ- الكتب المستخرجة على الصحيحين: مثل مستخرج أبي نعيم الأصبهاني على الصحيحين معا، ومستخرج أبي بكر الإسماعيلي على صحيح البخاري، ومستخرج أبي عوانة الاسفرائين ي على صحيح مسلم.
ب- كتب الحديث التي التزم أصحابها فيها جمع الحديث الصحيح: مثل: صحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، والسنن الصحاح لسعيد بن السكن والمستدرك للحاكم أبي عبدالله النيسابوري .

المبحث الرابع: المفاضلة بين الصحيحين:
إن المفاضلة بين الصحيحين لا تعني الحط من قدر أحدهما ولا من صاحبه، بل كثيرا ما ردد العلماء هذه الجملة: " أصح الكتب بعد كتاب الله صحيحا البخاري ومسلم "[17].
غير أن هذا لا يمنع من ترجيح أحد الكتابين على الآخر.

المطلب الأول: ترجيج الجمهور لصحيح البخاري على صحيح مسلم:
ذهب الجمهور من أهل العلم والفقه بالحديث، إلى تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم.

قال الحافظ بن حجر: " لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك؛ حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"[18].

ويمكن ترجيج صحيح البخاري على صحيح مسلم من أوجه ستة نذكر منها:
1- من حيث الاتصال: يشترط البخاري في المعنعن ثبوت اللقى بين الراويين لكي يحكم باتصال السند. أما مسلم فيكتفي بالمعاصرة مع إمكان اللقى وانتفاء التدليس.
2- من حيث العدالة والضبط: الرجال الذين روى لهم البخاري، وتكلم فيهم النقاد ثمانون فقط، ولم يكثر البخاري من ذكر حديثهم، وغالبهم من شيوخه الذين خبرهم ومارس حديثهم، أما رجال مسلم فقد انتقد منهم مائة وستون.
3- من حيث الشذوذ والعلة: انتقد على البخاري نحو ثمانين حديثا، في حين انتقد على مسلم نحو مائة وثلاثين حديثا، ثم نفيت أغلب هذه العلل عن أحاديث البخاري، ونفي بعضها فقط في أحاديث مسلم.
4- إن البخاري يخرج عن الثقات من الدرجة الأولى البالغة في الحفظ والإتقان في الأصول، ويخرج عن الطبقة التي تليها - في التثبت- في المتابعات، ومسلم يخرج عن الثانية أكثر من البخاري وكثيرا ما يورد أحاديثها في الأصول.

وباختصار قال شيخ الإسلام بن حجر:" اتفق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث، وأن مسلما تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه حتى قال الدراقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء"[19].

ويجب التنبيه إلى أن هذا التفضيل لصحيح البخاري على مسلم تفضيل إجمالي، لا يقتضي تفضيل كل حديث عند البخاري على كل حديث عند مسلم؛ لأنه كثيراً ما يوجد حديث في صحيح مسلم أصح من حديث عند البخاري.

المطلب الثاني: ترجيح بعض المغاربة لصحيح مسلم على صحيح البخاري:
نقل عن بعض المغاربة تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، وحمل الجمهور ذلك على منهج التأليف وطريقة التبويب ووضع الأحاديث في مظانها، ولم يصرح أحد منهم بأن ذلك التفضيل يرجع إلى الأصحية، وقد جمع بعضهم هذا في بيتين فقال:
تشاجر قوم في البخاري ومسلم
لدي وقالوا: أي ذين تقدمُ؟
فقلت: لقد فاق البخاري صحة
كما فاق في حسن الصناعة مسلمُ

فقد سهل الإمام مسلم على الباحثين استخراج أحاديثه من كتابه: ولذلك قال الحافظ السيوطي: " واختص مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فسهل تناوله، بخلاف البخاري فإنه قطعها في الأبواب بسبب استنباط الأحكام منها"[20]

المبحث الخامس: مراتب الحديث الصحيح وأصح أسانيده
المطلب الأول: مراتب الحديث الصحيح:
أعلى أقسام الحديث الصحيح ما اتفق على إخراجه أصحاب الكتب الستة، واكتفى كثير من المحدثين بجعل مراتبه ما يلي:
1- ما اتفق عليه البخاري ومسلم.
2- ما نفرد به البخاري.
3- ما انفرد به مسلم.
4- ما كان على شرطهما ولم يخرجاه.
5- ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه.
6- ما مان على شرط مسلم ولم يخرجه.
7- ما صححه غيرهما من أئمة الحديث لاشتماله على شروط الصحة.

المطلب الثاني: أصح الأسانيد:
اجتهد نقاد الحديث في المقارنة بين الرواة الثقات ومعرفة الأسانيد التي تشتمل على أعلى درجات الق*** حسب توفر رواتها على أعلى هذه الدرجات من الشهرة بالعلم والعدالة والضبط، فتبين لهم أن بعض هذه الأسانيد الصحيحة تتفاوت لحيازتها على أعلى هذه الشروط، فأطلقوا عليها: "أصح الأسانيد".

وقد اختلف أئمة الحديث فيها فذكر كل واحد منهم ما أداه إليه اجتهاده.
فمذهب الإمام البخاري أن أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر قال ابن الصلاح:" وروينا عن أبي عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - أنه قال: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر "[21].

ولما كان الشافعي أجل من روى عن الإمام مالك، والإمام أحمد أجل من روى عن الشافعي ذهب بعض المتأخرين إلى أن أجل الأسانيد ما رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهما- ويسمى هذا الإسناد سلسلة الذهب[22].

ومذهب إسحاق بن راهويه: الزهري عن سالم عن أبيه، قال ابن الصلاح: "فروين ا عن إسحاق بن راهويه أنه قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري عن سالم عن أبيه.[23]

ومذهب يحيى بن معين:" عبيد الله بن عمر عن القاسم، عن عائشة؛ ترجمة مشبكة بالذهب"[24].

ويمكن أن يقسم أصح الأسانيد إلى قسمين باعتبار الرواية عن الصحابة أو باعتبار أهل الأقاليم.
أ‌- باعتبار الرواية عن الصحابة:
• أصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر.
• أصح أسانيد عمر: الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله عن جده عمر.
• أصح أسانيد أبي هريرة: الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
• أصح أسانيد عبد الله بن مسعود: الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود.
• أصح أسانيد علي بن أبي طالب: محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو السلماني- أبي مسلم الكوفي -.

ب- باعتبار النسبة إلى الأقاليم:
• أصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة، عن عمر بن دينار، عن جابر.
• أصح أسانيد أهل المدينة: ما رواه إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة.[25]
• أصح أسانيد اليمنيين: معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.
• أصح أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجهني.[26]
• أصح أسانيد الشاميين: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي , عن حسان بن عطية، عن الصحابة[27]

خاتمة
الحمد لله الذي به تتم الصالحات، في ختام هذه البحث أعرض بعض نتائجه:
• يعد الحديث الصحيح من أشرف أنواع علوم الحديث؛ لأن الغاية من علوم الحديث معرفة الصحيح من غيره.
• الحديث الصحيح يصنف ضمن المصطلحات الحديثية النقدية.
• لا يلزم من صحة السند صحة الحديث، لجواز أن يكون المتن شاذا أو به علة.
• صحيح البخاري مقدم على صحيح مسلم من حيث الصحة، وصحيح مسلم مقدم على صحيح البخاري من حيث منهج التأليف وطريقة التبويب ووضع الأحاديث في مظانها.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

لائحة المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف المعجم
1- اختصار علوم الحديث، لابن كثير (ت: 774هـ) ت: أحمد محمد شاكر، ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية.
2- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) ت: الدكتور بشار عواد معروف، ط: دار الغرب الإسلامي - بيروت- الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2002 م، عدد الأجزاء: 16.
3- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للسيوطي (ت: 911هـ) ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، ط: دار طيبة، عدد الأجزاء: 2.
4- تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ت: 676هـ) ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، عدد الأجزاء: 4.
5- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) ت: محمد عوامة ط: دار الرشيد - سوريا، ط: الأولى، 1406 - 1986، عدد الأجزاء: 1.
6- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) ت: د. محمود الطحان ط: مكتبة المعارف - الرياض عدد الأجزاء: 2.
7- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة أو الحاج خليفة (ت: 1067هـ) ط: مكتبة المثنى - بغداد، تاريخ النشر: 1941م، عدد الأجزاء: 6 (1، 2كشف الظنون، و3، 4 إيضاح المكنون، و 5، 6 هداية العارفين).
8- منهج النقد في علوم الحديث، لنور الدين محمد عتر الحلبي، ط: دار الفكر دمشق-سورية، ط: الطبعة الثالثة 1418هـ -1997م.
9- معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح، لابن الصلاح (ت: 643هـ)، ت: نور الدين عتر، ط: دار الفكر- سوريا، دار الفكر المعاصر - بيروت، سنة النشر: 1406هـ - 1986م.
10- معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (ت: 405هـ) ت: السيد معظم حسين، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الثانية، 1397هـ - 1977م، عدد الأجزاء: 1.
11- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمسلم بن الحجاج (ت: 261هـ) ت: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، عدد الأجزاء: 5.
12- النكت على مقدمة ابن الصلاح، للزركشي (ت: 794هـ) ت: د. زين العابدين بن محمد بلا فريج، ط: أضواء السلف - الرياض، ط: الأولى، 1419هـ - 1998م، عدد الأجزاء: 3.
13- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ط: دار المعرفة - بيروت، 1379، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، عدد الأجزاء: 13.
14- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، لمحمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي(ت: 1332هـ) ط: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، عدد الأجزاء: 1.
15- الشمائل المحمدية، للترمذي، أبو عيسى (ت: 279هـ) ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، عدد الأجزاء: 1.


[1] (مقدمة ابن الصلاح) ص:12.
[2] (اختصار علوم الحديث) ص:22.
[3] (تدريب الراوي) ص:60
[4] ينظر (قواعد التحديث) لجمال الدين القاسمي، ص: 80.
[5] انظر (الشمائل المحمدية) للترمذي - باب ما جاء في صفة شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ص: 126.
[6](تدريب الراوي) ج:1، ص:87.
[7] انظر (منهج النقد في علوم الحديث) نور الدين محمد عتر، ص: 252.
[8] وقد أكد هذه الرواية السيوطي في (تدريب الراوي) والخطيب في (تاريخ بغداد) والنووي في (تهذيب الأسماء) وصاحب (كشف الظنون). وانظر (تدريب الراوي)، ج:1، ص:92.
[9] انظر (المقدمة) لابن الصلاح، ص:19.
[10] (تدريب الراوي) ج: 1، ص:117.
[11] نفس المصدر، ج:1، ص:98.
[12] نفس المصدر، ج:1، ص:98.
[13] (منهج النقد في علوم الحديث) لنور الدين عتر، ص: 256.
[14] (تدريب الراوي) ج:1، ص:91.
[15] (تدريب الراوي)،ج: 1، ص:104.
[16] (تدريب الراوي) ج:1، ص:104.
[17] (تدريب الراوي) ج:1، ص: 91، ومقدمة ابن الصلاح، ص: 14.
[18] فتح الباري ج:1، ص:346.
[19] تدريب الراوي، ج:1، ص: 93.
[20] تدريب الراوي، ج:1، ص: 93.
[21] (مقدمة ابن الصلاح) ص: 16.
[22] (مقدمة ابن الصلاح) ص: 16.
[23] نفس المصدر، 15.
[24] انظر (النكت على مقدمة ابن الصلاح) للزركشي، ت: زين العابدين بن محمد بلا فريج، ج:1، 155.
[25] تدريب الراوي، ج:1، ص:84.
[26] معرفة علوم الحديث، ص:56.
[27] (معرفة علوم الحديث) ص:56.




السعيد الصمدي