عن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم))؛ رواه مسلم[1].


يتعلق بهذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: النصيحة كلمة جامعةٌ، معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، وإرادة صلاح حاله وتخليصه من الخلل، وتصفيته من الغش، وذلك يتضمن إرادة الخير له، وترك غشه وخيانته في أهله وماله وغير ذلك، ولأهمية النصيحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع عليها أصحابه رضي الله عنهم، قال جرير بن عبدالله رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)؛ متفق عليه[2].

الفائدة الثانية: من أهم آداب النصح أن يكون سرًّا، وكان السلف - رحمهم الله تعالى - إذا أرادوا نصيحة أحدٍ وعَظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير[3]،وقال مسعر بن كدام: رحم الله من أهدى إلي عيوبي في ستر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريعٌ[4]، وقال أبو سليمان الدارني: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الخلائق فإنما يريد الشنعة[5].
تعمَّدْني بنُصحِك بانفراد
وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعَهْ
فإن النصحَ بين الناس نوعٌ
مِن التوبيخ لا أرضى استماعَهْ


وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول في مواعظه: ((ما بال أقوام))[6]، قال بعض العلماء: معناه: ما حالهم، وأبهم ذلك لئلا ينكسر خاطر المنصوح؛ لأن النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحةٌ[7].

الفائدة الثالثة: بالتناصح يتكامل المؤمنون، ويسدد بعضهم بعضًا، ويترقَّوْن في درجات الكمال؛ ولهذا تبوأت النصيحة هذه المكانة العظيمة في الدين، يروى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: مثل المسلم وأخيه كمثل الكفين تنقي إحداهما الأخرى[8]، وقال أبو نصر العياضي - رحمه الله -: ترك النصيحة يورث الفضيحة[9]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))، ثم شبك بين أصابعه؛ متفق عليه[10]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن مرآة المؤمن))؛ رواه أبو داود[11]، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ إذ تضمن توجيه الناصح للنصح، وتوجيه المنصوح لق*** النصيحة، وتوجيههما معًا لأدب النصيحة، ووجه ذلك: أن المرآة لا تخفي عيب الناظر فيها، بل تبينه له، فالناصح مثلها، وهي تبين العيب كما هو بهدوء وبغير تضخيم له، والذي يرى عيب وجهه في المرآة لا يكذبها أو يشتمها، بل يبادر لإصلاح العيب.


[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 (55).
[2] رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة؛ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) 1/ 31 (57)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 75 (56).
[3] جامع العلوم والحكم 1/ 82.
[4] بهجة المجالس 1/ 47.
[5] تاريخ مدينة دمشق 6/ 18، قال في القاموس: الشناعة: الفظاعة، شنع ككرم، فهو شنيع، وشنع، وأشنع، ويوم أشنع: كريه، والاسم: الشُّنْعة بالضم، ونحوه في مختار الصحاح، قال: الشُّنعة بالضم (ش. ن. ع).
[6] ينظر على سبيل المثال: حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 5/ 2263 (5750)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى، وشدة خشيته 4/ 1829 (2356).
[7] ينظر: إعانة الطالبين 1/ 191.
[8] ينظر: الجامع في الحديث لابن وهب 1/ 298، وتاريخ مدينة دمشق 21/ 444، وتخريج أحاديث إحياء علوم الدين للحداد 3/ 1105 (1602).
[9] طبقات الحنفية 1/ 70.
[10] رواه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا 5/ 2242 (5680)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/ 1999 (2585).
[11] رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النصيحة والحياطة 4/ 280 (4918)، والبخاري في الأدب المفرد ص93، قال العراقي (المغني عن حمل الأسفار 1/ 479)، والحافظ ابن حجر (بلوغ المرام ص344)، وابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 307: إسناده حسن، وبنحوه رواه الترمذي 4/ 325 (1929).


الشيخ عبدالرحمن بن فهد الودعان الدوسري