"أنت محتجبة؛ إذًا أنت موجودة"!
(فريد الأنصاري رحمه الله)
في مدينة أطلسيَّة من مدن المغرب الأقصى؛ حيث البرد القارِس وليالي الشتاء العاصِف، كنتُ أعيش أحلامَ أي فتاة في سنِّ الثانية عشرة؛ أحلام تعدَّت حدود الزَّمان والمكان، رُسمت في مخيلتي من خلال حبِّي الشديد لريمي وسالي وغيرهما من شخصيات الكرتون، كان ضيق المدينة متسعًا لطفولتي المرِحة، لذكريات ما فتئت تمحوها عقبات الزمان.

في تلك المرحلة المبكِّرة على ارتداء الحجاب - كما راج في مجتمعاتنا - قرَّرتُ أن أخطوَ خطوةً جريئة دون تَفكير أو تشاور، خطوة أعود بها إلى فِطرتي، إلى شيء مَكنون في نفسي طالما راود عقلي بضرورة الستر؛ نعم، قد أُواجِه من البعض تلك النَّظراتِ الحادَّةَ، والكلمات الجارِحة التي لا يَستطيع طفل ردَّها إلَّا بدموع تسيل على خدِّه، بيد أنَّ ذلك كله يَهون في سبيل أن أعيش على ما ارتضاه الله لي، وما استقرَّ عليه عقلي، واطمأنَّت إليه سريرتي.

قد يكون الحجاب قرارًا صعبًا - أو قل: مستحيلًا - وسط الزخم الإعلامي المقصود تجاه المحجبات، هجمة تلو هجمة خدَّرتْ عقول النَّاس، فلو قلتِ لهم: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاج ِكَ وَبَنَاتِك َ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِن ِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ َ مِنْ جَلَابِيبِ هِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59]، لقالوا لكِ: لا زلتِ صغيرة يا بنيَّة، عيشي حياة أقرانك؛ كأنَّ الحجاب قَبر مكتمل الأركان، تدفن فيه الأحلام والطموحات.

الحجاب هُويَّة، وخصوصيَّة إسلامية، أستنشق بها حريَّتي داخل سِجن الاستلاب الفِكري الذي مسَخ العقولَ وعرَّى النفوس، فلَم نعد نحن نحن! تائهون في دوَّامة التغريب، حائرون بين أفكار المستغربين وخطاباتهم المميعة؛ ذاك ينادي بتحرير المرأة، وتلك ترى في الفحش والمجونَ حضارة وتقدمًا.

يتحدثون باسمي وباسم كل أُنثى، ولا أدري مَن خوَّل لهم مباشرةَ العمل في قضايا هي من صلب عقيدتي، لا جرم أنَّهم يُدافِعون عن المرأة، لكن عن أيِّ امرأة ينافِحون؟! عن جسَد بلا روح؟ عن سلعة تُعرض في مزاد علَني؟ عن صورة بلا معنى؟ وأي دفاع هذا الذي يَبتذل قيمةَ المرأة ويقولِبها بقالب ثقافة ماديَّة مشوهة، تتمنَّى بعض نسائها الرجوع إلى كنف الإسلام والاستظلال بأحكامه ومبادئه؟[1] مبادئ تَصون كرامةَ المرأة، وتحافِظ على فِطرتها من السُّقوط في مستنقع الحريَّة المزيفة، ودرَن الحداثة العمياء.

الحجاب رايةٌ أرفعها في عالمٍ أضحى كلُّ ما فيه متشابهًا، أمضي به معلنةً انتمائي لهذا الدِّين، وانقيادي لربِّ العالمين، أكسر به أغلالَ العبوديَّة الجديدة، عبوديَّة تمتهن المرأةَ باسم الحرية، فتحرِّكها وفق أهواء ورغبات الباعة والمش**** في سوق السياسة الممنهجة ضد مظاهر الإسلام.

الحجاب جزء من كينونتي كأنثى، به أكون أنا، بخصوصيَّتي التي لن يرغمني قانون جائر على كشفها، أستعرضُ به فِكري لا شكلي، أعبِّر به عن قِيَمي التي لن تزلزلها دعوات التعرِّي ونداءات الانتكاسة عن الفطرة.

الحجاب قرار عودة لكلِّ نفس نقيَّة، استطاعت أن تَسلَمَ من أمواج الفتن المتلاطمة، إنه إحياء لروح الفِطرة التي أماتتها إغواءات الشيطان، وتلاعَبتْ بها أيدي جنوده من سدنة الرذيلة، الذين لا هَمَّ لهم سوى التفنُّن في سبل غَوايةِ المرأة المسلمة، بغيةَ حيادها عن مهمتها الوجودية في الإسلام، ووظيفتها الحضارية التي لن تستقيم إلَّا باتساق صورتها الجسدية مع صورتها الروحيَّة، تلك الصورة التي تكفَّل القرآن المنزَّل من سبع سموات ببيان معالمها، ورسمِ سيمائها.

وما أنداها عبارات الرَّافعي وهو يجيب عن مركزيَّة الحجاب وماهيته الروحيَّة المغيبة عند كثير من بناتنا قائلًا: "وما هو الحجاب إلَّا حفظ روحانيَّة المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدودٍ كحدود الربح من هذا القانون الصارم، قانون العرض والطلب؛ والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق"[2].

فأزيحي أخيَّتي الغشاوةَ عن قلبك، وأبصري بنور الفِطرة وسط ظلامك الحالك، امضِي عكس التيَّارات الجارفة، واثبُتي ثبوت الجبال الشَّامخات في عصر الخنوع والخضوع، واعلمي أنَّ ارتداء الحجاب استجابة لنِداء الفطرة، وإصغاءٌ لصَوت العقل السليم، في زمن خلط المفاهيم وتقويض القيم.

تم بحمد الله


[1] ينظر: "الإسل ام في المرأة"، برنامج وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة، يتحدث عن غربيات رأين في التحرر الغربي بورصة تزايد على جسد المرأة وجمالها، بحثن بجدية وموضوعية عن سبل الهداية والرشاد، فوجدن ضالَّتهن في الإسلام، الذي عاد بهنَّ إلى فطرتهن، داحضات بذلك كلَّ الادعاءات التي تثار عن الإسلام، وخاصة "مظلوم ية المرأة"، التي يُعلي بعضٌ من بنات جلدتنا أصواتَهنَّ بها.
[2]مصطفى صادق الرافعي: "وحي القلم"، ج (1)، ص (186).


كريمة دوز