لا يوجد منزَّه عن الخطأ؛ فالمعصومون هم الأنبياء الكرام، صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، ولا ينكِر أحدٌ أنه قد رأى شخصًا ما على خطأ، سواء كان هذا الخطأ في القول أو في الفعل؛ فالواجبُ عند ذلك بذلُ النصيحة الخالصة لله تعالى، ودعوتُه بالحسنى، دونما إحراجٍ لشخصه، أو تسفيهٍ لعقله، أو فضحه وإهانته على ملأ؛ قال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْم َةِ وَالْمَوْع ِظَةِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْه ُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْت َدِينَ ﴾ [النحل: 125]، وروى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما عن تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((للهِ، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم))؛ فالنصيحة معناها إرشاد الناس، وتوجيههم نحوَ ما فيه صلاحهم، في حياتِهم ومعادهم.وإذا أراد الناصح - سواء كان آمِرًا أو ناهيًا - أن تُؤتيَ النصيحة أُكلَها، وتُجنى ثمارها، فعليه أن يتلمَّس هَدْيَ الرسول صلى الله عليه وسلم في بذل النصيحة، والذي يتدبر سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان دقيقًا في متابعة أحوال الناس وتصرُّفاته م، هذه الأحوال وتلك التصرفات بالطبع لم تكن كلها بمنأًى عن الأخطاء؛ لذلك كانت نصائحه صلى الله عليه وسلم تشمل كل مناحي الحياة؛ فكان منها ما يتعلق بالعبادات وتصحيح أدائها، والمعاملات واجتناب المحرَّم منها، والعقيدة وتنقية ما يشوبها مِن أوجه الشرك، وغير ذلك مما يلزم فيه النصحُ والتوجيه، الذي كان يأخذ ثوبه الملائم لحال المنصوح، بحيث إن الفائدةَ تكون عامة، والرسالة المرجوَّة مِن النصح تصل إلى المقصود بكل سلاسة ويُسر وستر.وجاء في السنَّة الصحيحة أحاديثُ كثيرة تبين الأسلوب النبوي المتفرد في النصيحة، الذي كان يصعَد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم منبره الشريف فور رؤيته الخطأ مِن شخص أو من جماعة، منبِّهًا على ما رآه من فلان أو غيره بقوله: ((ما بال أقوام))، فيشعُر المخطئ بخطئِه، ويحمل الجميل لمَن ستر عليه، وأهدى إليه النصحَ في هذا الثوب الجميل.كثيرٌ ممَّن يرون أخطاءَ غيرهم يسارعون في التشهيرِ بهم، واتِّهامهم ، وفضحهم، ثم بعد ذلك يتذرَّعون بحجَّة إسداء النصح إليهم، إلا أن هذا الأسلوب النبوي في النصيحة: ((ما بال أقوام)) يعمِد إلى إشهار الخطأ، لا المخطئ، حتى يجتنبه المخطئ، ومَن يسمع هذا النصح في حينه، ومَن يصل إليه الخبرُ، إلى زمننا هذا.لقد أمَر اللهُ تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يتلطَّفا في النصيحة لفرعون، وأن يدعُوَاه باللين؛ فهذا الذي ينبغي بذلُه مِن الناصح، أما النتيجة فلا ضيرَ إن جاءت بالسَّلب والرفض لهذه النصيحة؛ قال الله تعالى: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر ُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]، وقال الله تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 148، 149].كذلك نبَّه اللهُ تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى التزام اللِّين والرَّحمة مع الموالين والمعادين؛ قال الله سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّ وا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْف ِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْه ُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل ْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَك ِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وطبَّق الرسولُ صلى الله عليه وسلم هذا التوجيهَ والتنبيهَ؛ قولًا وعملًا.فقد رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفرًا مِن أصحابه يلتفتون في صلاتهم، ويرفعون أبصارهم إلى السماء حين الصلاة، وهذا يقلِّل مِن ثواب الصلاة، ويذهَب بخشوعها ورُوحها؛ فوجَّه إليهم نصيحتَه في ثوبها الجميل المعهود منه؛ روى البخاريُّ في صحيحه عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بالُ أقوامٍ يرفَعون أبصارَهم إلى السماءِ في صلاتهم؟!)) فاشتد قولُه في ذلك حتى قال: ((لينتَهُن َّ عن ذلك، أو لَتُخْطَفَ نَّ أبصارُهم)) .ورأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه يحرِّك يدَه اليمنى إذا سلَّم عن يمينه، ويحرِّك اليسرى إذا سلَّم عن شِماله، فلفَت أنظارهم إلى خطأ هذا الفعلِ؛ روى أبو داود في سننه، ورواه غيره بألفاظ متقاربة، عن جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلَّينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلَّم أحدنا، أشار بيده مِن عن يمينه، ومِن عن يساره، فلما صلَّى، قال: ((ما بالُ أحدِكم يرمي بيده كأنها أذناب خَيلٍ شُمسٍ؟! إنما يكفي أحدَكم، أو ألا يكفي أحدَكم أن يقول هكذا))، وأشار بأصبعه يسلِّم على أخيه مِن عن يمينه، ومِن عن شماله، ومعناه: أمَا يكفي أحدَكم أو أحدهم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه مِن عن يمينه، ومِن عن شماله.وروى البخاريُّ في صحيحه عن عائشة، قالت: أتَتْها بَريرةُ تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئتِ أعطيتُ أهلك، ويكون الولاء لي، وقال أهلها: إن شئتِ أعطيتِها ما بقيَ، وقال سفيان مرةً: إن شئتِ أعتقتِها، ويكون الولاءُ لنا، فلما جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ذكَّرَتْه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابتاعِيه ا فأعتِقيها؛ فإن الولاءَ لمَن أعتَق))، ثم قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقال سفيان مرةً: فصعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: ((ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! مَن اشتَرَط شرطًا ليس في كتاب الله، فليس له، وإن اشتَرَط مائة مرة))، هذا الحديث يُعَدُّ قاعدةً هامة في التعاملات بين المسلمين، فلا يحِلُّ شرط يخالف ما أمر اللهُ ورسوله؛ في بيع، أو شراء، أو مكاتبة، أو مرابحة، أو مزارعة، أو غير ذلك، ولو اشترط ألف مرة.وعن أنسٍ رضي الله عنه: أن نفرًا مِن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن عملِه في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوَّج النساء، وقال بعضهم: لا آكُل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمِد اللهَ وأثنى عليه، فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟)) لكني أصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء؛ فمَن رغِب عن سنَّتي، فليس مني))، وفي هذا الحديث نَهْيٌ ضمنيٌّ عن التنطُّع والغلو، حتى ولو كان ذلك في العبادة، فما بالكَ إذا كان الغلو في المحرَّمات والمنهيَّا ت، وحتى في المعتقدات، فأمة الإسلام هي أمة الوسطية، التي لا ينبغي لأفرادها أن يحيدوا عنها.وفي سِيَر الصحب الكرام والسلف الصالح ما يؤكِّدُ هذا السلوكَ السَّويَّ، الذي لا يُنكِره عاقل، ولا يرفُضُه صاحب فطرة سويَّة؛ قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "رحِم اللهُ امرأً أهدى إليَّ عيوبي"، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "المؤم نُ ينصَح ويستُرُ، والفاجر يهتِك ويُعيِّر"، وقال الشافعي - رحمه الله -:
تعمَّدْني بنُصحِكَ في انفرادي
وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعَهْ

فإن النُّصحَ بين الناسِ نوعٌ
مِن التَّوبيخِ لا أرضى استماعَهْ

وإن خالفتَني وعصَيْتَ قولي
فلا تجزَعْ إذا لم تُعْطَ طاعَهْ
ويُروى أنه في عهد سيدنا موسى عليه السلام تأخَّر المطر، وطلَب منه قومه أن يدعوَ ربه بالغيث وينزل عليهم المطر، فصعِد سيدنا موسى الجبل، ودعا ربه بأن ينزل عليهم المطر، فقال له ربه عز وجل: يا موسى، كيف أُنزِل المطر وبينكم عاصٍ؟ فرجع موسى إلى قومه وبلغهم بأن بينهم عاصيًا، ولن ينزلَ الله المطر إلا إذا خرج، فلم يخرج أحد، ثم أنزَل الله المطر، فصعِد موسى الجبل، وقال لربه: يا رب، جمعتُ القوم وأبلغتهم بأن بيننا عاصيًا، فليخرُجْ، ولم يخرج أحد، وقد أنزلتَ المطرَ يا رب، فقال سبحانه وتعالى: يا موسى، إني أنزلتُ المطر بعدما تاب العاصي توبة نَصُوحًا، فقال موسى لربه: مَن هو يا ربِّ حتى نعرفه؟! قال الله عز وجل لموسى: يا موسى، سترتُه وهو عاصٍ فكيف لا أستره وقد تاب إليَّ؟! سبحانك ما أحلَمَك! سبحانك ما أرحَمَك! تستُرُ على العاصي، وتعلِّمنا أن ننصح ولا نفضح، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدنو المؤمن (أي من ربه تعالى) حتى يضع عليه كنَفَه، فيُقرِّره بذنوبه: تعرفُ ذنبَ كذا؟ يقول: أعرف، يقول: ربِّ، أعرف، مرتين، فيقول: سترتُها في الدنيا، وأغفِرُها لك اليوم، ثم تُطوَى صحيفةُ حسناته، وأما الآخَرون أو الكفَّار، فينادى على رؤوس الأشهاد: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِ ينَ ﴾ [هود: 18].إننا نتعجَّب كلَّ العجب في زماننا هذا، الذي كثُر فيه الهمز واللمز، والتفسيق والتبديع، والطَّعن والتجريح، الذي طال الأوَّلين والآخرين، ولم يسلَمْ منه نبيٌّ مرسَل، أو صحابي مبشَّر بالجنة، ولم يسلَمِ العلماء أيضًا مِن هذا السبِّ والتجريح، إننا لا ندعي العصمةَ لأحد، لكننا نوجِّهُ همسةً في أُذن كلِّ مسلم؛ أن ينتهجَ النهجَ المحمديَّ في نصحه، وأن يُلبِسَ نصيحتَه ثوبَ الأدب والسِّتر، في إطار هذه الجملةِ التي امتلأت بها السنَّة المطهَّرة: ((ما بال أقوامٍ؟!)) ، وهجَرها الناصحونَ بكل أسًى.
هدانا اللهُ وإياكم إلى صراطِه المستقيم