عُرِفَ النبي صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بعظيم الخُلُق، وكريم الشمائل، فكان أحسن الناس خُلُقاً، وأصدقهم حديثاً، وأوفاهم عهداً، قال ابن تيمية: "وكان صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم، وترك كل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يُعَادَى به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه، ولا جُرِّبَت عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة". وقد أجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ الله له عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة، وأن حياة نبيها صلى الله عليه وسلم كانت أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تُعْرَف له فيها هفوة، ولم تحص عليه زلة، قبل وبعد بعثته.


وقد زعم بعض أهل الباطل وأعداء الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم، واستدلوا على زعمهم الباطل وشبهتهم الواهية ببعض النصوص القرآنية التى قد يُتوهم من ظاهرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى ضلال، أو على ذنب، أو غفلة أو شك، كما استندوا أيضاً إلى بعض الأحاديث التى قد يُتوهم من ظاهرها عدم عصمته صلى الله عليه وسلم، وذلك للإقلال من قدْره ومنزلته من ناحية، ومن ناحية أخرى التشكيك في سيرته صلى الله عليه وسلم وعصمته.
ومن الآيات القرآنية التى استشهدوا بها على ما زعموا من باطل: ما ورد فى القرآن الكريم من مخاطبة الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقوى الله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِي نَ وَالمُنَاف ِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}( الأحزاب:1) .


ومن جملة الجواب والرد على هذه الشبهة الواهية:


أولاً: لا حجة لهم فى التعلق بظاهر هذه الآية التى استشهدوا بها على عدم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجواز وقوعه في الذنوب، وذلك لِمَا صح من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان أتقى وأخشى الناس لله عز وجل، وأحسنهم خُلُقاً، وأبعدهم عن الجهالات، شهد له بذلك العدو والصديق، والمؤمن والكافر، قال ابن هشام في السيرة النبوية: "فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال،حتى سمي في قومه الأمين، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة"..
ولو أنَّ أحداً من المشركين الذين عاصروه ولم يؤمنوا به عَلِمَ له زلة أو ذنباً لطار به فرحاً وأشاعه بين الناس، فقد كانوا في غاية التربص به، فلما يئسوا من العثور على شيء من ذلك، فعلوا كما يفعل أعداء الإسلام اليوم من الافتراء والكذب والزور عليه صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: لله تعالى أن يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشاء، وإن استحال عليه تركه، وينهاه عما يشاء وإن كان وقوعه منه صلى الله عليه وسلم مستحيلا، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}(الأ حزاب:1)، وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}( الضحى:10:9 )، فقد كان صلى الله عليه وسلم من أتقى وأخشى الناس لله عز وجل، وما قهر يتيماً، وما نهر سائلاً، وإنما كان مثالاً أعلى للتقوى والخوف من الله، والبذل والعطاء والرحمة باليتامى وغيرهم، وهو ما شهدت به سيرته العطرة من قبل أن ينزل عليه وحى الله تعالى وبعده، وهو القائل صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (أما والله إنى لأتقاكم لله وأخشاكم له) رواه مسلم.


ثالثا: قيل فى الجواب عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِي نَ وَالمُنَاف ِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}( الأحزاب:1) ، أن الخطاب فى الظاهر للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، إذ هو معصوم من مخالفة الأوامر وارتكاب النواهى لعصمة الله عز وجل له، وإنما هذا أمْر لغيره من المسلمين، فليس النبي صلى الله عليه وسلم مظنة أن يطيع الكافرين والمنافقين حتى يُنبّه إلى التحرّز منهم، ولكننا نحن المعنيون بهذا الإرشاد، ومثل ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِ ينَ}(يونس: 105}،{وَاد ْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِ ينَ}(القصص :87)، ولذلك قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}(الأ حزاب:1)، : "هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى".


رابعاً: في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِي نَ وَالمُنَاف ِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}( الأحزاب:1) ، التي أثاروا من خلالها شبهة عدم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، شهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه ما أطاع أهل الكفر فى أهوائهم، ففي تفسير البغوي والقرطبي: "{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور وعمرو بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا، اللات والعزى ومناة، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشقَّ (صعُب وثقُل)على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم، فقال: إني قد أعطيتهم الأمان، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} أي: دُمْ على التقوى، كالرجل يقول لغيره وهو قائم: قم ها هنا، أي: اثبت قائما. وقيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة".
وقال ابن عطيه في تفسيره: "قوله: {اتقِ} معناه دُم على التقوى، ومتى أُمِرَ أحدٌ بشيءٍ هو به مُتلبس فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية".
وقال ابن الملقن: "وقد قَالَ تعالى له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}(ا لأحزاب:1) أي: دُمْ على تقواه"، وفي كتاب منحة الباري بشرح صحيح البخاري: "{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}(ا لأحزاب: 1) أي: دُمْ على التقوى، واثْبَتْ عليها".
وقال ابن عثيمين: ".. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه ربه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}(الأ حزاب: 1)، فالرسل عليهم الصلاة والسلام مأمورون بالعمل الصالح وإن كانوا يعملونه تثبيتاً لهم على ماهم عليه ليستمروا عليه".


الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم صفوة البشر، اصطفاهم الله على جميع خلقه، قال الله تعالى: {قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى }(النمل:59 )، قال السعدي: "وسلِّ م أيضاً على عباده الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين من الأنبياء والمرسلين وصفوة الله من العالمين، وذلك لرفع ذكرهم وتنويها بقدرهم وسلامتهم من الشر والأدناس". والأنبياء كلهم بمحل التقوى والخوف من الله، كما وصفهم الله سبحانه بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُو نَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْ نَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}( الأحزاب:39 )، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، فهو معهم على ذلك الخُلُق، وهو الخشية من الله، التي هي رأس الأمر في التقوى، ومن ثم فهذه الآية تشمله شمولاً أولياً، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وسيد الناس في هذا المقام ـ بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".


إن المتأمل للآيات القرآنية التي يستدل بها أعداء الإسلام على عدم عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}(الأ حزاب:1)، يرى أن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته صلى الله عليه وسلم غير مُراد، وما هي إلا افتراءات أطلقوا عليها اسم أدلة وبراهين، وما هي إلا أدلة داحضة، وبراهين وشبهات واهية، كما قال أهل العلم والتفسير. قال ابن حجر: "وعصمة الأنبِياء - على نبيِّنا وعليْهِم الصَّلاة والسَّلام -: حِفْظُهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَّبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة" .

منقول