عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار))، ثم أعرض وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار))، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))؛ متفق عليه[1].

يتعلق بهذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: يأمر النبي صلى الله عليه وسلم جميع المسلمين باتقاء النار، ولا يكون ذلك إلا بعمل الصالحات واجتناب المنهيَّات ، كما ينبه صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا الاتقاء لا يحتقر فيه شيء يسير يعمل من الصالحات، ولا شيء يسير يجتنب من السيئات، فليحرص المسلم على التقوى في جليل الأمر ويسيره؛ قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا، (قال أبو شهاب): بيده فوق أنفه؛ رواه البخاري[2]، وقال أنس رضي الله عنه: إنكم لتعمَلون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشَّعر، إن كنا لنعُدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات؛ رواه البخاري[3]، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه)) ؛ رواه أحمد[4]، وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة، إياك ومحقَّرات الذنوب؛ فإن لها من الله عز وجل طالبًا))[5]، وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبيَّ بن كعب رضي الله عنه عن التقوى؟ فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى،قال: فما عملتَ؟ قال: شمَّرْتُ واجتهدت، قال: فذلك التقوى[6]، قال ابن المعتز:
خلِّ الذنوبَ صغيرَها
وكبيرَها؛ ذاك التُّقَى
واصنَعْ كماشٍ فوقَ أَرْ
ضِ الشَّوكِ يحذَرُ ما يرَى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً
إن الجبالَ مِن الحصَى

الفائدة الثانية: لا ينبغي أن يحتقر المسلم شيئًا من المعروف يقدمه لنفسه، ولو كان صغيرًا، فلربما كان فيه نجاته من النار؛ قال أبو ذر رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق))؛ رواه مسلم[7]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك))؛ رواه البخاري[8]، قال ابن بطال - رحمه الله تعالى -: فيه أن الطاعةَ موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرِّبة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء؛ اهـ، وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: فينبغي للمرء ألا يزهَدَ في قليل من الخير أن يأتيَه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبَه؛ فإنه لا يعلَم الحسنةَ التي يرحمه الله بها، ولا السيئةَ التي يسخَطُ عليه بها؛ اهـ[9].

الفائدة الثالثة: هذا الحديث موافقٌ لقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقد فقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة هذه النصوص، فعملوا بها؛ قال مالك - رحمه الله -: بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنبٌ، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطِه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟! وجاء سائل إلى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وبين يديه طبق عليه عنب، فأعطاه عنبة، فقيل له: أين تقع هذه منه؟! قال: فيها مثاقيل ذر كثيرة، وجاء سائلٌ إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وبين يديه طبق عليه تمر، فأعطاه تمرة، فقبض يده، فقال سعدٌ: إن الله يقبل منها مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذرة؟![10].


[1] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذِّب 5/ 2395 (6174)، ومسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار 2/ 703 - 704 (1016).
[2] رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب التوبة 5/ 2324 (5949).
[3] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يتقى من محقرات الذنوب 5/ 2381 ضمن الحديث رقم (5949).
[4] رواه أحمد 5/ 331، والروياني في مسنده 2/ 216 (1065)، والطبراني في المعجم الكبير 6/ 165، والأوسط 7/ 219 (7323)، والصغير 2/ 129 (904)، وقال الحافظ (فتح الباري 11/ 329): أخرجه أحمد بسند حسن.
[5] رواه أحمد 6/ 70، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب 2/ 1417 (4243)، والدارمي 2/ 392 (2726)، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 113: أخرجه أحمد وابن ماجه، وسنده حسن، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 4/ 245: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
[6] تفسير ابن كثير 1/ 41.
[7] رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء 4/ 2026 (2626).
[8] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك 5/ 2380 (6123).
[9] فتح الباري 11/ 321، وكلام ابن بطال منه أيضًا.
[10] ذكر هذه الآثار ابن عبدالبر في الاستذكار 8/ 602 - 603.


الشيخ عبدالرحمن بن فهد الودعان الدوسري