عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ: ﴿ يَاأَيُّهَ ا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَك ُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الآيَةِ. جَلَسَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ (وفي رواية: خَطِيبَ الأَنْصَار ِ) فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَاحْتَبَس َ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ النَّبِيُّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: «يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ أَشْتَكَىٰ ؟» قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي. وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. قَالَ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هذِهِ الآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُ مْ صَوْتا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيّ ِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ». وفي رواية: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَ ا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .

ترجمة راوي الحديث:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الثالث من كتاب الإيمان.


تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم حديث (119)، وأخرجه البخاري في "كتاب المناقب" "باب علامات النبوة في الإسلام" حديث (3613).


شرح ألفاظ الحديث:
• ﴿ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَك ُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2]: أي إذا نطق ونطقتم فلتكن أصواتكم أقل من الحد الذي وصل إليه صوت النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم.
• ﴿ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل ِ ﴾ [الحجرات: 2]: أي إذا نطقتم وهو صامت فإياكم أن ترفعوا أصواتكم دون مراعاة لمقام النبوة وجلالة قدرها.
• ﴿ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُك ُمْ ﴾[الحجرات: 2]: بحرمانكم من ثوابها.

(جَلَسَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ): هو ثابت بن قيس بن شماس بن زهير الخزرجي الأنصاري أحد خطباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطيب الأنصار، شهد أحدا وما بعدها، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما في حديث الباب، وقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر شهيدا سنة 12ه، -رضي الله عنه-. [انظر أسد الغابة (1/275)].

بعدما نزلت الآية حبس نفسه في بيته حزينا خائفا أن يكون هو المراد.
• (وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ): بسبب خوفه أن يكون هو المراد بالآية، فقال ذلك لنفسه أو لمن اتصل به وسأله.


فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث فيه بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدة الخوف من الله تعالى، والخوف على أعمالهم أن تحبط، وفيه ما هم عليه من معايشة الآيات وتطبيقها على واقعهم ومخاطبة أنفسهم بها، فها هو خطيب الأنصار وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه.


الفائدة الثانية: في الحديث فضل ومنقبة عظيمة لثابت بن قيس حيث شهد له بالجنة، بل جاء في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بثلاث بشارات فقال:" يعيش حميدا، ويقتل شهيدا، ويدخل الجنة" فمات شهيدا رضي الله عنه في معركة اليمامة، واعلم أن معتقد أهل السنة والجماعة أن الشهادة لأحد بالجنة على نوعين:
1- شهادة لمعين بشخصه، وهذه لا تكون إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم كثابت بن قيس في حديث الباب والعشرة المبشرون بالجنة وغيرهم.

2- شهادة لمعين بوصفه، كالشهادة للمؤمنين أو للمتقين فهذا لا حرج بالشهادة فيها بالوصف لا بالشخص، فنقول كل مؤمن في الجنة ولا نقول هذا المؤمن في الجنة.


الفائدة الثالثة: الحديث فيه مسلك تربوي وهو ينبغي للعالم وكبير القوم والمربي والمعلم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم.

وفي الحديث سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ثابت بن قيس، فذهب سعد بن معاذ ليسأل عنه، وفي الحديث إشكال وهو كيف الجمع بين الآية في الباب ﴿ يَاأَيُّهَ ا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَك ُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] التي نزلت في زمن الوفود بسبب الأقرع بن حابس سنة تسع كما جاء في رواية البخاري وبين كون سعد بن معاذ مات قبل ذلك في بني قريظة سنة خمس؟

قيل في الجمع عدة أجوبة:
قيل: "ويمكن الجمع بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نزل في قصة الأقرع أول السورة وهو قوله: ﴿ لَا تُقَدِّمُو ا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه ِ ﴾ [الحجرات: 1]" قاله ابن حجر [انظر الفتح "كتاب المناقب" "باب علامات النبوة في الإسلام" حديث (3613)].

وهذا القول بعيد لأن رواية البخاري فيها تصريح في أن الذي نزل في قصة الأقرع ﴿ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَك ُمْ ﴾ [الحجرات: 2].
وقيل: إن ذكر سعد بن معاذ في حديث الباب وهم من الراوي والصحيح أنه سعد بن عبادة يدل على ذلك رواية ابن المنذر في تفسيره عن قتادة عن أنس وفيها: "فقال سعد بن عبادة يا رسول الله هو جاري".

قال ابن حجر: "وهذا أشبه بالصواب لأن سعد بن عبادة من قبيلة ثابت بن قيس فهو أشبه أن يكون جاره من سعد بن معاذ لأنه من قبيلة أخرى".[انظر الفتح المرجع السابق].
وقيل: بتكرار نزول الآية فتكون نزلت قبل موت سعد بن معاذ مرة وبعده مرة أخرى والله أعلم.


الفائدة الرابعة: الحديث دليل على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم رفع الصوت فوق صوته، وإذا كان عقوبة ذلك إحباط، فكيف بمن يرفع عقله وفكره على ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بتسفيه ما جاءت به السنة والقدح في ذلك بكتابات مقيتة أو أقوال مؤسفة عبر الإعلام وغيره فلا شك أن هذا أشد قبحاً في ميزان الشرع المطهر.


الفائدة الخامسة: الحديث دليل على إيمان الصحابة بما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية لقول الراوي: "فَكُن َّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَ ا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)




الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح