يوقن أعداء الأمة الإسلامية أن التباس الحق بالباطل هو الوسيلة التي توصلهم إلى تمزيق الأمة، وتشتيت شملها، وإيجاد الثغرات لمهاجمتها. . وقد فعلوا ذلك قديمًا عبر الفرق المنحرفة عن السنة، من مرجئة وصوفية مبتدعة، وخوارج ومعتزلة وجبرية.. وغيرها، وهم يفعلون ذلك في واقعنا المعاصر عبر إحياء أفكار هذه الفرق الضالة، كما يفعلونه عبر توجيه الأنظمة العلمانية إلى ابتداع إسلام بعددها، ليلتبس على الأمة أمر دينها، وليصبح الإسلام الواحد بعقيدته ومبادئه وتشريعاته، اسمًا متعددًا بتعدد ألوان مؤامرة (الالتباس) التي تزاولها تلك الأنظمة لاحتواء العمل الإسلامي، وضرب الأصولية الإسلامية المرتكزة على منهج أهل السنة والجماعة.

ولا شك أن تجلية التيار الفكري لأهل السنة، من التيارات الفكرية لأهل البدع والأهواء يحتاج إلى جرأة فكرية،.. لكنه هو السبيل لبناء حركة إحياء إسلامي صحيحة، على قواعد سليمة ومتماسكة.

إن الدعوات القائمة على عقائد الفرق الضالة تقوم بدور خطير في نزع الفتيل المتفجر في الأمة، وتعوق بأفكارها المنحرفة الانطلاقة القوية للأمة لجهاد أعدائها وتغيير واقعها.
فأما المرجئة فقد فرت عقائدها في الأمة فريًا عظيمًا وخدرتها على مدار التاريخ، وجعلتها نهبًا لكل طامع.. وذلك بما تزعمه من أن الإيمان هو المعرفة فقط، أو هو المعرفة والنطق بالشهادتين لفظًا دون أي التزام بالعمل!! فقتلت في الأمة روح الجهاد «فمن اعتقد أن الإيمان هو المعرفة فقط. كيف يُتصور منه أن يجاهد الكفار؟ ومن اعتقد أن العمل خارج عن دائرة الإيمان وأن الإنسان يكون مؤمنًا بمجرد التصديق أو النطق من غير عمل مطلقًا، فما الذي يحمله على (المخاطرة) بنفسه وماله، وتعريضهما للهلاك وإيمانه كامل تام!! وما الذي يستفيده من جهاده إذا تساوى في اعتقاده إيمان من مات بين الصفوف - محاربًا للكفار - مع إيمان من مات مخمورًا في أحضان المومسات - وهو ينطق بالإيمان!! »[1].

وهكذا وجدنا جموعًا من المسلمين - بتأثير عقائد المرجئة - تخضع لملاحدة ينادون بالعلمانية ، وإقامة الحياة على غير الدين، ويمارسون التشريع للبشر من دون الله أو مع الله.. ولا تفكر هذه الجموع في جهاد أولئك مطلقًا لأنهم يعلنون إسلامهم على رؤوس الأشهاد!!.

وأصبح اللبس الذي أحدثته المرجئة في مسمى الإيمان، سببًا في إعطاء صفة الإيمان لمن لا يستحقها، ونزع صفة الكفر عمن يستحقها.. ورفع سيف الحق، الذي أمر الله بإنزاله على رقاب هؤلاء الملاحدة، الذين يخربون البلاد والعباد ويطبقون أصناف الكفر في ديار الإسلام، باسم الإسلام حينًا وبغير اسمه حينًا.

وإذا قام مجاهد يدعو لإزالة الشرك وإقامة شرع الله، وقف أهل الإرجاء حجر عثرة في طريق جهاده بعقيدتهم الفاسدة.
• وأما الصوفية المبتدعة فهم طرق وطوائف شتى، ولا يمكن حصر انحرافاتهم لكثرتها ولكنها في عمومها، انحرافات مناقضة للجهاد ومميتة للروح الجهادية. ويكفي منها «عقيدتهم في التوكل والرضا بالقدر التي جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم. فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين وسبي ذراريهم، وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر، وغير متوكل على الله»[2].

• وأما المعتزلة فما زلنا نسمع «من هنا وهناك على امتداد رقعة الأرض الإسلامية أفكارًا ممسوخة لآرائهم يتشدق بها بعض المغرضين من المتعالين الذين استهوتهم حضارة الغرب وأساليبها، فادعوا أن العقل هو الحاكم في حياة الإنسان، وأنه لا نجاة ولا علو لنا في خضم التيار الحضاري الحديث إلا باتباع العقل وحده!!»[3] وهكذا مهدت أفكار الاعتزال الطريق لهؤلاء لبث أفكارهم الخبثة تحت شعار الإسلام حتى قال قائلهم: إن معطيات النصوص تختلف من فرد إلى آخر.. والدين علاقة بين العبد وربه!!.

• وأما الخوارج فلا نزال نراهم بين أظهرنا في صورة جماعات تدعو إلى ضلالها، ولا تفرّق بين الشرك والمعاصي، وتزعم انقطاع الوجود الشرعي والتاريخي لأمة الإسلام فتقوم بالتبشير بدين الإسلام من جديد، وتهمل الصراع التاريخي لهذه الأمة، ولا تواجه أعداءها الدائمين من يهود ونصارى ومشركين.

وهكذا شاب العقيدة الإسلامية الكثير من الأخلاط، من مرجئة وصوفية ومعتزلة وخوارج.. ونحن هنا لا نقصد إلى استقصاء أسماء الفرق، ولكنها عجالة تشعرنا بالواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا بسبب أفكار هذه الفرق الضالة.. وتنبهنا في الوقت نفسه «أن هذه الفرق ليست فرقًا قديمة عفى عليها الزمان، وبادت فيما باد من الأيام، بل هي فرق قديمة حديثة في آن واحد، وما تزال امتداداتها تسرى مسرى الميكروب في جسم الأمة ينخر فيه بالداء المهلك»[4] وقد راج الكثير من الباطل الذي تدعو إليه تلك الفرق لإخراجهم له في قالب الحق. ولذلك فلا بد من إقامة (الفرقان) الذي يميز بين أفكار أهل السنة والجماعة، وبين أفكار تلك الفرق، حتى لا تكون هذه الأفكار المنحرفة هي التي توجه حركة الأمة الإسلامية.

فإذا أقمنا هذا الفرقان بين السنة، والأفكار المنحرفة عنها، فلا بد لنا من مواجهة مؤامرة (تغييب) الإسلام (الأصولي)[5].. أو الإسلام (السياسي). . أو الإسلام (الإحيائي) .. فما هي تلك المؤامرة؟.

إن أعداء الإسلام لا يريدون الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولا يطيقون الإسلام الذي يعلم الشعوب أن إعداد العدة فريضة، وأن جهاد الأعداء فريضة.. ومن أجل ذلك نصح هؤلاء الأعداء الأنظمة العلمانية «بإيجاد بديل إسلامي مستأنس قابل للاحتواء داخل الإطار السياسي العام للدولة»[6] لأنهم يرون أن تيار الإسلام الأصولي «هو جزء من عملية التغيير الاجتماعي، يمكن نظريًا تغيير مساره ولكن من الصعب إيقافه»[7] ومن هنا بدأت الأنظمة العلمانية في العمل (بالنصيحة) .. فصار الإسلام الأصولي أو السياسي.. هو الذي يهدد الحضارة الإنسانية، ومن ثم فلا بد من أن تتقرب الأمم إلى ربها بمطاردته والقضاء عليه، ومنع أي إنسان من التحدث عنه أو الإشارة إليه!!.

وفي المقابل استخدمت الأنظمة العلمانية الإسلام (الرسمي).. إسلام (أنصاف الحلول).. و(التعايش) مع العلمانية. استخدمته في مواجهة الإسلام الأصولي وذلك تمهيدًا لضرب الجميع لأنها لا تطيق أي نوع من الإسلام!!.

ومن هنا وجب علينا إقامة الفرقان بين الإسلام (الأصولي). . (الإحيائي) الذي يحمل قضايا الأمة،.. والإسلام (الرسمي) الذي يتاجر بتلك القضايا؟!.
فالإسلام (الأصولي) يقوم على «العودة بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة. وقواعد الفهم المعتبر لدى الصحابة والتابعين، .. ويقدم مفهومًا أساسيًا في العقيدة ومقومات الحياة، وفرعيات النظم»[8].

أما الإسلام (الرسمّي) فهو يقوم على الأهواء والبدع، ويزور الحقائق الإسلامية ليسوغ الباطل ويعطل العدل ويناصر الظلم!! ولا يقدم إلا الفتاوى التي تعبر عن مصالح الظالمين والطغاة، وتسوغ الاستبداد، وامتهان الكرامات.. فهو إسلام الفتاوى المعدة سلفًا لكل واقع يريده أصحاب السلطان!!.

والإسلام (الأصولي). . (الإحيائي) ، فضلًا عن اهتمامه بعقيدة الأمة، يدرك الصراع التاريخي بين الإسلام وأعدائه، ويدرك دوره في تلك الفترة من عمر الأمة الإسلامية، كما يدرك رسالة هذه الأمة تجاه العالم في تلك الفترة من عمر الإنسانية. أما الإسلام الرسمي.. إسلام (التعايش) مع العلمانية، فلا يدرك تلك الأبعاد ولا يهتم بها، بل ويُظهر الإسلام وكأنه لا يملك دورًا إيجابيًا في إخراج الأمة من التبعية إلى الريادة، ومن الاستضعاف إلى التمكين، ومن الفرقة والضعف إلى الائتلاف والقوة.

والإسلام الأصولي لا يقبل العلمانية، ولا يلتقي معها في أول الطريق، ولا في منتصفه، ولا في أي طريق، لأنه يدرك أنه لا يمكن أن يجتمع الإسلام مع الجاهلية في صف واحد.. ولا أن يتفاوض معها في وقت ما، لأن في ذلك الاعتراف الضمني لها بالشرعية.

أما الإسلام الرسمي، فهو إسلام (أنصاف الحلول) الذي يقبل العلمانية. . وتصيبه تشوهات القومية والوطنية، لأنه إسلام بلا جذور.
والإسلام الأصولي.. (الإحيائي) يتحرك في الواقع باستعلاء الإيمان، ويمتلك النفس الط***. ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَو ْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َ ﴾ [آل عمران: 139] ولذلك فهو لا يقبل المساومة ﴿ وَكَأَيِّن ْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّون َ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم ْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُ وا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِ ينَ ﴾ [آل عمران: 146]. أما الإسلام الرسمي.. إسلام (التعايش الذليل).. فهو يتحرك بنفسية المهزوم، وبطاقة محدودة.. ولذلك فهو يقبل المساومة مع الباطل والتعايش معه!!.

وهكذا.. لا بد لنا من إقامة الفرقان بين الإسلام الحق، والإسلام الذي صمم في إطار (حرب الدين بالدين)!!.

إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة ليس هو الإسلام الذي يعطي (الشرعية) للأنظمة العلمانية، فيترك الأمة بلا سلاح في مواجهة هذه الأنظمة، ويجردها من أقوى أسلحتها في مواجهة العلمانية، وهو عدم الاعتراف بشرعيتها..

وليس هو الإسلام الذي يحقق (الإشباع) الديني، دون الدخول في قضايا الأمة، وصراعها مع أعدائها..
إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يقوم على «الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه.. والتأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان،. . وصياغة الحياة العملية الفردية والجماعية على مقتضى الوحي»[9].

إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يتبنى الحلول الجذرية لمشاكل جماهير الأمة، وينقذها من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والاستلاب الاقتصادي. ..
إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يرتضى الجهاد الشامل في كل ميادين الحياة من أجل إحياء الأمة الإسلامية، وبناء الحضارة الربانية وتحقيق الخيرية التي وُصفت بها هذه الأمة ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُون َ بِالْمَعْر ُوفِ وَتَنْهَوْ نَ عَنِ الْمُنْكَر ِ وَتُؤْمِنُ ونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

وبكلمة: إن الواقع الفكري والعقائدي للأمة الإسلامية يؤكد أنها في حاجة ماسة إلى حركة إحياء شاملة، تجدد للأمة أمر دينها، وتصحح ما فسد من عقائدها وتقوم ما اعوج من سلوكها، وتنفث فيها روح الجهاد والتصدي لأعداء الله.. ولا بد لهذه الحركة في طريقها للتغيير من مواجهة مؤامرة (احتواء) العمل الإسلامي التي تمارسها الأنظمة العلمانية بطرق التمييع والالتواء، وعبر لغة (الحوار) و(الملاءمة ) السياسية.. والتي يتم عن طريقها تح*** الإسلام الواحد إلى (إسلامات) متعددة، وذلك عبر مزجه بغيره من الأفكار من علمانية وقومية ووطنية.!!.

وما لم تقتحم هذه الحركة التي تحمل أفكار أهل السنة والجماعة، وتنطلق في الاتجاه الإسلامي الصحيح.. ما لم تقتحم ساحة العمل الإسلامي، لتدفع الأمة إلى طريق الرشد من جديد.. فإن هناك من ينتظر على الطرف الآخر ليطرح ما عنده من أفكار واتجاهات.. إما (مثبطة).. أو (أنصاف حلول).. أو.. إلى آخر هذه الأفكار التي تضيع الوقت والجهد، ولا تعطي ثمارًا بقدر الثمن المدفوع.

الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة، دار الصفوة بالقاهرة، 1437 ه، 2016 م


[1] أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية - د. علي بن نقيع العلياني ص 465، 466.
[2] المصدر السابق - ص 488.
[3] مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين - محمد العبده ص 37 بتصرف.
[4] المصدر السابق - ص 37.
[5] كلمة أصول في معناها اللغوي تعني الذي يرتكز على الأصول، وهي هنا المنطلقات الأساسية للإسلام، وهذا في مقابل الإسلام المعلب الذي صمم في أمريكا.
[6] راجع كتاب الأصولية الإسلامية في العالم الإسلامي - هربرد كمجيان.
[7] تنظيم الجهاد. هل هو البديل الإسلامي في مصر - نعمة الله جنية.
[8] ندوة الفكر الإسلامي المعاصر - ص 230، 231.
[9] صفة الغرباء - سلمان العودة ص 83 - 104.


د. محمد محمد بدري