لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مبشرًا ونذيرًا، وداعياً إلى الله تعالى، ومبلغاً رسالة الحق إلى الخلق، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأوثان والعباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَ اكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّر ًا وَنَذِيرًا ﴾ [1]، ولقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو من حوله سرًا ثلاث سنين، إلى أن أمره ربه عز وجل بالإنذار والاعلان قال تعالي ﴿ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّ رُ * قُمْ فَأَنذِرْ ﴾[2]؛ وقال تعالي ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِ ينَ ﴾ [3]، فلما صدع بالدعوة وجهر بها عاداه قومه وكذبوه، وكان جوابهم كما حكى القرآن الكريم: ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُو ا عَلَى آلِهَتِكُم ْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ﴾ [4]، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الدعوة تعرض فيها المسلمون للإيذاء حتى اضطر بعضهم للهجرة إلى الحبشة فرارًا من الأذى والاضطهاد والقتل؛ ومن أمثلة ما لاقاه المسلمون من الأذى ما ذكره ابن القيم[5] في زاد المعاد قال: (فقد قتل ابو جهل - لعنه الله - سمية أم عمار بن ياسر - رضي الله عن آل ياسر[6] - طعنها بحربة في فرجها حتى قتلها) [7]، ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالصبر وألا يحزن على ما يلاقيه ***اقيه أصحابه؛ قال تعالى ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون َ ﴾ [8].

وفي هذه المرحلة كان منهج الدعوة يسير وفق الأسس الآتية:
1- الدعوة (باللين وبالحجة والبراهين) إلى توحيد الله عز وجل، وإبطال عبادة الآلهة المنحوتة، وفساد عبادة غير الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، واثبات البعث والرسالة.
2- ترسيخ العقيدة السلمية، وترويض النفوس كي تنقاد إلى أوامر الله تعالى، وتخليصها من شوائب العصبية والجاهلية، وضبط النفس وانفعالاته ا كي تكون تبعا لأوامر الله عز وجل.
3- عدم الاعتداء أورد العدوان الواقع على القلة المسلمة المستضعفة، ومواجهة ذلك بالصبر. وكان ذلك من أشد الامور على نفوس المسلمين؛ قال الله تعالى ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [9].

وظل الأمر هكذا حتى أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، ونزل قول الله تعالى ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُو نَ بِأَنَّهُم ْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَ تْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات ٌ وَمَسَاجِد ُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُر َنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [10]، يقول ابن القيم (فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر وبذلوا نفوسهم دونه.. رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم ساق العداوة والمحاربة والله تعالى يأمرهم بالصبر والعفو حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم حينئذ في القتال...) [11]

ومن هنا يتبين أن الإذن بالقتال كانت له مبررات ودوافع، وأنه قد آن الأوان لأن يدافع المسلمون عن دينهم ويردوا الاعتداء الغاشم الذي لا مبرر له عند هؤلاء المعتدين الذين طالما عذبوا وفتنوا وطردوا المسلمين وتعقبوهم في كل مكان؛ وعن نزول الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ذكر ابن هشام في السيرة النبوية ما يلى: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعه العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء. إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم؛ فمنهم من هو مفتون في دينه، أو معذب في أيديهم، أو هارب في البلاد فرارا منهم؛ فلما عنت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، اذن الله عز وجل لرسوله في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغي عليهم، فكانت أول آية نزلت في إذنه له في الحرب، وإحلاله الدماء والقتال قوله تعالى ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُو نَ بِأَنَّهُم ْ ظُلِمُوا ﴾.. الآية من سورة الحج، أي إنما احللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس، إلا أن يعبدوا الله، وانهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أجمعين، ثم أنزل الله تبارك وتعالى عليه: ﴿ وَقَاتِلُو َهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [12]: أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ أي حتى يعبد الله، أي لا يعبد معه غيره) [13]

إنه العداء القديم بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، فأهل الكفر وأنصار الباطل لا يريدون ان يعبد الله في الأرض، فالعبودية لله - عندهم - جريمة، والايمان بالله الواحد يزعجهم ويقلق مضاجعهم، وإقام الصلاة يخيفهم، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يهدد أمنهم وسلطانهم؛ وهذه بعض مبررات قتالهم وعدائهم للمسلمين.. أما المسلمون فهم يقاتلوا من أجل حرية العقيدة - لهم ولغيرهم - فلا يكره أحد على دين، ولا يؤذى أحد ولا يفتن بسبب إيمانه، فالقتال في الاسلام انما شرع كي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ فالخلق خلقه، والامر أمره ﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِي نَ ﴾ [14]، وتلك هي الغاية، أما المبررات فهي الظلم والاعتداء والاخراج بغير حق والإيذاء بسبب الإيمان بالله.

هذا الآية الكريمة السابقة - من سورة الحج[15] تشير إلى أمور هامة يجب التأكيد عليها وهي:
1- قوله تعالى ﴿ يُقَاتَلُو نَ ﴾ "بفتح التاء" تشير إلى ان المسلمين هم المعتدي عليهم وأن المشركين هم الذين بدأوا قتال المسلمين.
2- قوله تعالى ﴿ ظُلِمُوا ﴾ تشير إلى ان هناك ظلم وقع على المسلمين.
3- قوله تعالى ﴿ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ تشير إلى نوع من أنواع الظلم الذي وقع على المسلمين، وأن إخراجهم من ديارهم لا مبرر له وليس للمشركين حق في هذا الفعل الآثم.
4- قوله تعالى ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾ تشير إلى تأكيد سنة المدافعة، وحق الدفاع عن الدين والنفس.
5- قوله تعالى ﴿ لَّهُدِّمَ تْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات ٌ وَمَسَاجِد ُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ اشارة إلى ان هذا الدين يقوم على مبادئ نبيلة وغايات شريفة ومن أهمها المحافظة على دور ا لعبادة؛ وهي - كما في الآية الكريمة: الصوامع: وهي المعابد الصغار للرهبان، وقيل هي معابد الصابئين، وقيل صوامع المجوس..

والصلوات: وهي مساجد لأهل الكتاب، وأما المساجد فهي للمسلمين..[16] والإسلام يأمر اتباعه بالمحافظة على أماكن العبادة والالتزام بتلك المبادئ في السلم والحرب على السواء.

ومن هنا يمكن القول بأن مرحلة ما قبل فرض القتال قد اتسمت بالصبر وضبط النفس وعدم الاعتداء أو رد العدوان؛ لأن الهدف في هذه المرحلة هو التبليغ حتى تصل الدعوة إلى الناس، والحفاظ على القلة المؤمنة المستضعفة، وذلك بترك الصدام مع قوى الشرك المعاندة؛ لأن هذه القلة المستضعفة المؤمنة كانت - في هذه المرحلة - كالنبتة اللينة، سهلة الانكسار، لم يشتد عودها بعد؛ فكانت الحكمة هي في ***** هذه القلة، وحمايتها، ولعل هذا ما أشارت إليه الآية الكريمة وفي وصف اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو وصفهم في الانجيل؛ قال تعالى ﴿ .. وَمَثَلُهُ مْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْل َظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ.. ﴾ [17]؛ يقول القرطبي - رحمه الله - (وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ يعني يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، كالزرع يبدوا بعد البذر ضعيفاً، فيقوى حالاً بعد حال) [18]، ثم لما أيد الله تعالى هذه القلة بالمأوي والأنصار أذن له في القتال لرد العدوان وحماية الدعوة.


[1] سورة الأحزاب (45، 46).
[2] سورة سورة المدثر (1 ، 2).
[3] سورة سورة الحجر (94).
[4] سورة سورة ص (5 ، 6).
[5] ابن القيم هو العلامة شمس الدين ابو عبد الله محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن قيم الجوزية، ولد 691هـ ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية واخذ عنه وتفنن في كافة علوم الاسلام، توفي 751هـ.
[6]هي سمية بنت خُبّاط، آم عمار بن ياسر، اسلمت بمكة قديما وكانت ممن يعذب في الله عز وجل لترجع عن دينها فلم تفعل، وكانت عجوزاً كبيرة فهي أول شهيدة في الاسلام رحمها الله..
[7] زاد المعاد ابن القيم ج2 ، ص 43.
[8] سورة النحل (127).
[9] سورة الشورى (43).
[10] سورة الحج (39-40).
[11] زاد المعاد (مرجع سابق) ج2، ص 58.
[12] سورة البقرة (192).
[13] السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: د. محمد فهمي السرجاني، المكتبة التوفيقية، ج2، ص57.
[14] سورة الأعراف 54
[15] ذكر ابن كثير عن ابن عباس إنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين اخرجوا من مكة ولما نزلت الآية :" قال ابو بكر رضى الله عنه : فعرفت انه سيكون قتال.
[16] انظر تفسير ابن كثير جزء 3 ص 225
[17] سورة الفتح من الآية (29).
[18] تفسير القرطبي جزء 9 ص 6115.


د. أمين الدميري