بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين.
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَك ُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَد ِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْت ُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِ لُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِ ينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِ لُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُ مْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِ مِينَ * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَ ا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر ِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَ ا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّا كُمْ بِاللَّيْل ِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَا رِ ثُمَّ يَبْعَثُكُ مْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُ مْ ثُمَّ يُنَبِّئُك ُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون َ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْه ُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُو نَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُم ُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِ ينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُ مْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر ِ تَدْعُونَه ُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَن َّ مِنَ الشَّاكِرِ ينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُ مْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون َ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُ مْ أَوْ يَلْبِسَكُ مْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُم ْ يَفْقَهُون َ ﴾ [الأنعام: 56 - 65].


بُنِيَتْ سورة الأنعام على ركيزتينِ؛ أولاهما: إثبات للتوحيد، وثانيتهما: إبطال للشرك، وبدأت بالتنبيه إلى تفرُّد الله سبحانه بالخَلْق؛ مبدأً ومعادًا، وظلمةً ونورًا، بقوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَ اتِ وَالْأَرْض َ وَجَعَلَ الظُّلُمَا تِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1]، وكان هذا الاستهلالُ فيها محورًا تدور حوله مفرداتُها؛ بِشارةً بما أُعِد للموحِّدين ، ونِذارةً مما ينتظر المشركين، إثباتًا للتوحيد الخالص بصريح الآيات البينات، وإبطالًا للشرك، بقواطعِ الأدلة والبراهين على زيف ألوهية الأوثان؛ أحجارًا وأشجارًا وأصنامًا، وطواغيتَ من الجن والإنس والأوهام والأهواء، بقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَ اتِ وَالْأَرْض ِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]، وتنديدًا بمعتقداتِ المشركين، وعَجْز معبوداتهم وضعفها، وتسفيهًا لدعائهم وعبادتهم في كل حالات الرَّهَب والرَّغَب والاضطرار، بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَ كُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُ مْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَار َكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم ْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم ْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 46].

كما عرَضَتِ السورة الكريمة نماذجَ مِن إصرار المشركين على شِركهم: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوه ُ بِأَيْدِيه ِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 7]، وأخرى مِن ثبات الرسل عليهم السلام: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34]، وأخرى مِن ثبات الرعيل الأول وأُولي العزم مِن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُون َ بِآيَاتِنَ ا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ﴾ [الأنعام: 54]، ثم توَّجَتْ ذلك كلَّه بالقول الفصل في الأمر كله، وهو مُبارَأَة الشرك، ومُفاصَلة أهله، والنهي الحاسم المطلَق عن عبادة غير الله تعالى، أو موالاة أعدائه، تحت أي تأ*** أو تبرير أو عنوان، فقال تعالى مخاطبًا رسولَه صلى الله عليه وسلم وملقِّنًا له واضح الأدلة وناصع البراهين يحاجُّ بها المعترضين:
﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]، والدعاء في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ يعني العبادة؛ أي: "الذين تدعونهم وتعبُدونهم "، ومجمل هذه الآية الكريمة أمرٌ مِن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يفاصِلَ المشركين ويقول لهم: إن اللهَ تعالى نهاني عن عبادة غيره؛ خضوعًا أو إذعانًا، أو انقيادًا أو استسلامًا، أو إنابة ورجاءً وطمَعًا، أو استغاثة واستعانة وتوكُّلًا، أو خوفًا وخشية، ورهَبًا ورغَبًا.

ورَد هذا النهي في الآية الكريمة على صيغة المبني للمجهول: ﴿ نُهِيتُ ﴾ استغناءً عن ذكر الناهي؛ لظهوره في السياق، وهو الله تعالى، كما عُبِّر عن الأصنام بالاسم الموصول: "الذين " الخاص بالعقلاء؛ لأن المشركين عامَلوها معاملة العقلاء، ولكونها قد تكون طواغيتَ بشرية، أو أوثانًا حجرية، أو جنًّا، وأوهامًا وأخيِلةً.

جاء هذا النهي مباشرة بعد قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَ بِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِم ِينَ ﴾ [الأنعام: 55]، فكان بعد أن أقيمت الحجة على المشركين وتبيَّن بالآيات المفصلات سبيل المحقِّين من سبيل المبطِلين، واجبًا عدلًا وشرعًا وعقلًا، أن يزول غبشُ الملاينة والمداراة بين الفريقين، وأن تُعلَن البراءة والمفاصلة بين أهل الهداية والتقى، وبين أُولي الغَواية والضلالة بقوله صلى الله عليه وسلم لهم: ﴿ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]؛ كي يتحمل كلُّ فريق مسؤوليته، وينال جزاءه عند ربه؛ خلودًا في الجنة أو ارتكاسًا في النار.

إن البراءةَ مِن الشرك وأهلِه - كما وردت في هذه الآية الكريمة - مبدأٌ أصيل، وركيزة ثابتة في عقيدة الإسلام عند جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، مِن آدم عليه السلام إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأنها رمزُ تَميُّزِ الحق عن الباطل، والإيمان عن الكفر، ولا مجال للتمويه عليهما أو إلباس أحدهما ثوبَ الآخر؛ ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُون َ ﴾ [يونس: 32].

بذلك حسَم الله تعالى علاقة نوح بابنه مفاصلةً تامة ومباينة قطعية، فقال عز وجل: ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِ ينَ ﴾ [هود: 46]، كما حسَم علاقة نوح ولوط عليهما السلام بزوجتيهما، وعلاقة فرعون بزوجته، فقال عز وجل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَت َ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْن ِ فَخَانَتَا هُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِ ينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِ ينَ ﴾ [التحريم: 10، 11].

نفس الموقف كان من قبلُ لإبراهيم عليه السلام مِن أبيه: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَا رُ إِبْرَاهِي مَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِي مَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، وكان لهودٍ عليه السلام من قومه: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُو ا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ ﴾ [هود: 54]، وكان لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام إذ أمَره ربه عز وجل بقوله: ﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُون َ ﴾ [يونس: 41].

إن الصراعَ بين الحق والباطل سنَّة سائرة في حياتنا الدنيا، ليس له مِن بديل إلا الفساد، ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، به يتميَّز المُحِق من المبطِل، وليس للمرء أن يكون محايدًا بينهما؛ ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]؛ لأن الحيادَ خِذلان للحق صريح، ونصرةٌ للباطل ضمنيَّة.

يتجلى هذا الصراعُ لدى الصادقين في محاولاتهم الإصلاحَ والصبر والمصابرة على الأذى وإن طال، ولكن لا بد في نهاية الأمر من حسم الموقف بالبراءة من المبطِلين؛ إذ لا يُعقَل أن يستمر الجدال العقيم مع من عمِيَتْ بصيرته، وأسَرَتْهُ أهواؤه، ذلك هو المنهجُ السليم الذي أرشد إليه الله سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]، ثم زاد فأكَّده بعد ذلك في سورة غافر بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَ اتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِ ينَ ﴾ [غافر: 66].

إن مفاصلةَ أهل الحق لأهل الباطل إن أصرُّوا عليه، تعني أولَ انتصار في قلوب أهل الحق للحق، وما دام في قلب امرئ ميلٌ للمبطِلين أو عطف عليهم أو مجادلة عن أهوائهم، فإنه لم يخلُصْ بعدُ من الغَواية والضلال، أو لم يتطهر من القابلية لهما على أقل تقدير، وطالما التمَس المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ثغرةَ ضعف ينفُذون منها إلى قلبه، فيقبَل مداهنتهم على عقيدته، كما في قولهم له: "لو عبدتَ آلهتنا وعَظَّمْتَ ها لَعبدنَا إلهك وعظمناه"؛ فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّ بِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُ ونَ ﴾[1] [القلم: 8، 9]؛ لذلك عندما نهى الحقُّ سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم عن ملايَنة المشركين وحضَّه على مفاصلتهم، أمَره عقِب ذلك بتعميق هذه المفاصلة، وتيئيسِهم مِن نجاح مداهناتهم ومساوماتهم ومكرهم، فقال له عز وجل:
﴿ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَك ُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَد ِينَ ﴾ [الأنعام: 56]، والأهواء لغة: جمعٌ، مفردُه الهَوَى، مِن فعل: "هَوِي َ يهوَى هَوًى"، وهو ميلُ النفس إلى الشيء بما يُستنكَر، أو بما لا ينبغي؛ لذلك غلَب على الهوى الذم؛ كما في قولهم: "غواهُ الهوَى جهلًا عَن الحق فانغوَى"، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، والأهواء المعنيَّة في هذه الآية الكريمة هي معبوداتُ المشركين؛ أصنامًا وأوثانًا، وكهنةً وطواغيتَ بَشَرٍ في كل زمن ومكان، كلها من نزغاتِ شياطين الجن والإنس، وغلبة الأهواء.

إن في هذه الآيةِ الكريمة موقفينِ صارمين مِن المشركين؛ موقفَ مفاصلة لهم حدِّيَّة، وموقفَ شجب وازدراء لعقولهم بينًا واضحًا، مفاصلة بقوله لهم: ﴿ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَك ُمْ ﴾ [الأنعام: 56]، وازدراء بعقولهم بقوله لهم: ﴿ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَد ِينَ ﴾ [الأنعام: 56]؛ لأن الضلالَ فِعل العقول، والعقول إذا غلب عليها الهوى استعبدها فتمادَتْ في الأضاليل؛ كما ورد في حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حُبُّك الشيءَ يُعمي ويُصمُّ))[2]، وقال: ((تعِس عبدُ الدينار، تعِس عبد الدرهم، تعِس عبد القطيفة، تعِس عبدُ الخميصة، تعَس وانتكَس، وإذا شِيكَ فلا انتقش))[3]؛ لذلك ورَد الحثُّ في الكتاب والسنَّة على التحرر من الهوى، سواء كان هوًى لمال أو سلطان أو منصب، أو رئاسة أو جاه، أو حزب أو طائفة، أو شهوات نفسٍ في المأكل والمشرَب والمنكَح، وتكرَّر ذلك في عدد من سور القُرْآن، في سور الرعد والشورى والقصص ومحمد وغيرها، كما تكرر مرتين في آخر سورة نزلت من القُرْآن الكريم، وهي سورة المائدة، بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَه ُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَه ُمْ وَاحْذَرْه ُمْ أَنْ يَفْتِنُوك َ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].

إن المُشرِكين قد اتبعوا ما زيَّنته لهم الأهواءُ من المعتقدات ومناهج الحياة، وأعرضوا عما جاءهم مِن البينات والآيات فضلُّوا؛ لذلك أعلن لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم براءتَه من اتباعها بقوله لهم: ﴿ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَك ُمْ ﴾ [الأنعام: 56]؛ لأني إن اتبعتُها ضللتُ وتنكَّبْتُ عن طريقِ الهداية والرُّشد، ﴿ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَد ِينَ ﴾ [الأنعام: 56].

ثم زاد صلى الله عليه وسلم يبيِّن لهم أسبابَ هدايته بما أمره اللهُ أن يقولَ لهم:
﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْت ُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 57]، والبيِّنة هي كلُّ ما يتبين به الحق؛ حُججًا قاطعة، وأدلة عقلية وحسية، وآيات كونية، بها جاء الأنبياءُ والرسل عليهم السلام أقوامَهم، ما مِن رسول إلا جاء قومه ببينةٍ على صدقه وصدق رسالته، نوح عليه السلام: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُ مْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَت ْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُ كُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، وموسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُون َ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُون َ ﴾ [الأنعام: 157]، وصالح عليه السلام لثمود: ﴿ قَدْ جَاءَتْكُم ْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَ ا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَ كُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73]، وشعيب عليه السلام لمَدْيَنَ: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم ْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَ انَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَه ُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِه َا ﴾ [الأعراف: 85].

إن البينةَ التي عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجاء بها قومَه، والتي هو حفيظ عليها، وقدوة فيها، وداعية إليها ليست إلا الوحيَ الكريم، بتصوره الإيماني الواضح السليم، الذي أبلغه إياه جبريلُ عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُق ِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 4 - 10]؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أعرَفَ الخَلْق بربه، أعرفهم بألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وبديع خَلْقه، وأكثرهم امتثالًا لأمره ونهيه، وتعظيمًا لحُرماته، أما المشركون فكانوا أبعدَ عن الهداية، كفَروا ربَّهم، وأعرضوا عن ذِكره، وكذبوا القُرْآن وجحدوه، واستهانوا بدعوة التوحيد، ولم يُفِدْ فيهم ترغيب أو ترهيب أو تهديد، وقد بلَغهم قولُه تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُ كُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، ثم بلَغ بهم التحدي مداه فاستعجلوا ما هُدِّدوا به؛ كما أخبر بذلك الوحيُ الكريم: ﴿ وَيَسْتَعْ جِلُونَكَ بِالْعَذَا بِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُم ُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِ يَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون َ ﴾ [العنكبوت: 53].

لذلك كان ردُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعجالهم العذابَ بقوله:
﴿ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِ لُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 57] إن العذابَ الذي تستعجلونني بإنزالِه ليس مِن أمري أو قدرتي، ولم يفوِّض الله إليَّ التصرُّف فيه، إنه بيدِ الله، ينزله بكم حسَب علمه وحكمته، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 57]، إنَّ القضاءَ فيه حُكمًا وإنفاذًا للهِ وحده، إن شاء عجَّل لكم ما استعجلتموه منه، وإن شاء أنظَركم وأجَّلكم، وإن شاء رحِمكم وهداكم إلى صراطه المستقيم، ﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾ [الأنعام: 57] يقول الحقَّ، ويحكُمُ به، ويقضي به، ويخبِر به، ويفصِل بيني وبينكم به، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِ ينَ ﴾ [الأنعام: 57]، وهو سبحانه خيرُ مَن يفصل بين الحق وأهله، وبين الباطل وأتباعه، يفصِل بينهما قضاءً؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [النمل: 78]، ويفصِل بينهما قولًا؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾ [الطارق: 13]، بيدِه سبحانه الأمرُ والنهي، ليس له في ذلك شريكٌ ولا ندٌّ ولا مُعين.

وقد قرَأ نافع وابن كثير وعاصم لفظ: ﴿ يَقُصُّ ﴾ [الأنعام: 57] بصادٍ مهملة مشدَّدة مرفوعة، تبعًا لقراءة ابن عباس، أما الباقون فقرَؤوها بضادٍ معجمة مخفَّفة مكسورة ﴿يَق ْضِي﴾، والقراءتان ِ في المتواتر، ومعناهما واحد.

ثم لإتمامِ صفات النبوة والبشريَّة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان عبوديَّته لربه، وغضَبه لانتهاك حرماته، وبيان حِلم الله عليهم - أمَره تعالى بأن يقول لهم:
﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِ لُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 58]؛ أي: قُلْ للمشركين أيها الرسول: لو أن أمرَ عذابِكم كان بيدي أو فُوِّض إليَّ، ﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُ مْ ﴾ [الأنعام: 58]، لفصَلْتُ بيني وبينكم؛ غضبًا لربي، وأوقعت بكم ما تستحقونه من العذاب؛ لِما أعلمه من كفركم وإصراركم على الشِّرك والعدوان، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِ مِينَ ﴾ [الأنعام: 58]، ولكن الله سبحانه هو أعلم مني ومن جميع الخَلْق بكفركم ومآل أمركم، يعجِّل مِن العذاب ما تعجيله أصلَحُ، ويؤجِّل ما تأجيله أصلح، أعلمُ بمَن ظلموا بكُفرٍ يموتون عليه وكُتِب لهم به العذاب، وبالذين ظلموا بكُفرٍ وسبقت لهم في عِلم الله الحسنى بالتوبة والإيمان، والعفو والمغفرة.

لقد كان هذا الجوابُ منه صلى الله عليه وسلم للمشركين إذ حاولوا استفزازَه بالتكذيب والتحدِّي واستعجال العذاب، موقفًا إيمانيًّا حدِّيًّا، أخرَج به نفسه من الأمر كله، ولزِم به حدَّ عبوديته وبشريته وتوحيد ربه، فكان بذلك نموذجَ الغضبِ لله تعالى، والنقمة على أعدائه، والتسليم له بما يَقضي في أمر المشركين؛ امتثالًا لقول ربه له: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَه ُمْ فَإِنَّهُم ْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128]، ولكنه صلى الله عليه وسلم في أولِ دعوته وقد اشتدت به محنةُ الاعتراض في الطائف، وقبْلَ أن يتحداه المشركون بسؤال إنزال العذاب، جاءه من ربه - كما ثبت في الصحيحين[4] مَلَكُ الجبالِ، وعرَض عليه عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم، وسأَل لهم التأخير؛ عسى الله أن يُخرِج مِن أصلابهم من يعبُدُه ولا يشرك به شيئًا، وكان بذلك نموذجَ نبي المرحمة والثقة بالله، كما كان عند تحدِّي المشركين لله نموذجَ الغاضب له عز وجل.

ولئن كان صلى الله عليه وسلم قد فاصَل المشركين عقَديًّا بأمر ربه، وأنهى حالةَ مُلايَنتهم - فإن هذا الموقفَ منه لا يُثمِر في النفس والشعور والسلوك الفردي والاجتماعي والعلاقات الإنسانية إلا أن يكون على بيِّنة مِن أمر العقيدة؛ تصوُّرًا إيمانيًّا متكاملًا، ومُبارَأة حاسمة في المشاعر والمواقف والعلاقات؛ كي يَهلِكَ مَن هلَك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة؛ عملًا بقاعدة ربانيةٍ تقضي بأن اللهَ تعالى لا يُركِسُ قومًا في الضلال إلا إذا بيَّن لهم الحق فاختاروا الباطل وأصرُّوا عليه واعتزُّوا به؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 115]؛ لذلك أخَذ صلى الله عليه وسلم يبيِّن للمشركين حقائقَ التوحيد، ودقائقَ معرفته بألوهية ربه تعالى وجلاله وعظَمته، وسَعة عِلمه الذي ليس لمخلوق أبدًا أن يحيطَ به بقوله عز وجل:
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَ ا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59] ولفظ مَفاتِح مُفرده مَفتَح بفتح الميم والتاء بمعنى المفتاح؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا هُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَه ُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْب َةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76]، وقد استُعير اللفظ: ﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ [الأنعام: 59] للتعبيرِ عن إحاطة الله بأسرار الغيب، واطِّلاعه عليه، وتمكُّنه مِن ناصيتِه، كأن الغيبَ خزائنُ محكمةُ الإغلاق، عند الله وحده مفتاحُها، وكيف لا يكون ذلك وهو سبحانه خالقُ الغيب؟! بيده تدبيرُ سرائره وخفيَّاته ومغاليقه، ما ظهر منه إلى عالم الشَّهادة وما لم يظهر، وما وقَّت لظهوره وقتًا وما لم يؤقِّتْ، وما حدَّد لبروزه مكانًا وما لم يحدِّد، ما يتسع العقل البشري لفهمِه واستيعابه وما لا يتَّسِع، ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَ اتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3]؛ أي: في اللوحِ المحفوظ، لا يُظهِر على بعضِ ما فيه إلا لأصفياءِ عباده مِن الأنبياء والرسل والملائكة المقرَّبين ؛ كما قال سبحانه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27]، كحال عيسى عليه السلام فيما حكاه عنه ربُّه تعالى إذ قال لقومه: ﴿ وَأُنَبِّئ ُكُمْ بِمَا تَأْكُلُون َ وَمَا تَدَّخِرُو نَ فِي بُيُوتِكُم ْ ﴾ [آل عمران: 49]، وحال يوسفَ عليه السلام إذ قال لصاحبي السِّجن: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُم َا طَعَامٌ تُرْزَقَان ِهِ إِلَّا نَبَّأْتُك ُمَا بِتَأْوِيل ِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُ مَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37]، وكان صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأَلونه عن أشياءَ مِن الغيب والشهود، فيُبيِّن بعضها، ويُعرِض عن بعضها، تبعًا لِما يأتيه من ربه، ويقول لهم: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلَك الذين مَن قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم)) ، إلى أنْ حسَم رب العزة أمرَ غيوبٍ خمسةٍ استأثَر بعلمها في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّل ُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَا مِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، ثم في حَجَّة الوداع قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بواحدٍ وثمانين يومًا، أو اثنين وثمانين يومًا، نزَلَتْ سورةُ المائدة، وفيها قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102].

ولزيادةِ البيان والتَّوضيح تدرَّج بهم الحقُّ سبحانه مِن الغيب المطلق الذي خلَقه واستأثر بمفاتِحِه إلى ما يرَوْن مِن عالَم الشهادة في البيئة البشرية، والعالم الذي يعيشون بين أكنافه، يعرفون جزئيَّةً صغيرة منه، ولا يستطيعون الإحاطة به كله، فقال:
﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر ِ ﴾ [الأنعام: 59] يعلَم دقيقَهما وجليلهما، مجمَلًا ومفصَّلًا، ما خلَقه الله فيهما مما اكتشفه البشرُ، وما يكتشفون، وما لا يكتشفون، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَ ا ﴾ [الأنعام: 59]، ولا تسقُطُ ورقةٌ في لُجَج البحار ومفاوز القِفار إلا علِمها قبل السقوط ومعه وبعده، وعلِم أسبابَ سقوطها، للتجدُّد والنَّماء، أو للانهيارِ والفَناء، ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 59]، ولا بذرة مطمورة في عُمْق الأرض إلا علِم حالها ومآلها، ومقدار آجالها، ﴿ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴾ [الأنعام: 59] ولا كائن تتخلَّله الرُّطوبة أو اليبس إلا علِم قابليتَه للحياة والفَناء، وفاعليته في الكون، ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59] إلا كَتَب في اللوحِ المحفوظ حكمةَ خَلْقه، ودورَه الذي خُلق له وسُخِّر فيه، وآجالَه التي أُجِّلتْ له.

ثم تدرَّج بهم الحقُّ سبحانه إلى أمثلةٍ لعلمِه سبحانه في حياتهم اليومية، في يقظَتهم ومنامهم، وسِرِّهم وعلانيتهم، وسَعْيِهم وكَسْبهم في دنياهم، وحسابهم وجزائهم في آخرتهم، فقال تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّا كُمْ بِاللَّيْل ِ ﴾ [الأنعام: 60] فتنامُون، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَا رِ ﴾ [الأنعام: 60] ويعلَمُ ما كسبَتْ في النهار جوارحُكم: أيديكم وأرجلُكم، وأسماعُكم وأبصاركم، وألسنتكم وقلوبكم وفُروجكم، مما هو مباحٌ أو محرَّم، مأجور أو مَوْزور[5]،﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُ مْ فِيهِ ﴾ [الأنعام: 60] يوقِظُكم مِن نومكم في النهار، وتتوالى عليكم الأيامُ، ﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ [الأنعام: 60]؛ لتبلغوا ما أجل لكم من العمر، ثم تموتون، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُ مْ ﴾ [الأنعام: 60] فترجِعون إلى الله سبحانه، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُك ُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون َ ﴾ [الأنعام: 60] فيُخبِركم بجميع أعمالكم في الدنيا، ويجازيكم بها، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.

إن كلَّ عاقل إذا استعرض حالَه، مبدأَه ومنتهاه، مسارَه ومآله، واستحضر إحاطةَ علم ربه بعالَمي الغَيب والشهود في السموات والأرض، والبَرِّ والبحر، في النوم واليقَظة، في المكسب مأجوورًا أو موزورًا، في الآخرة مبعوثًا محشورًا ثم مَجْزِيًّا أو مغفورًا، لا بد أن يستشعرَ بفِطرته السليمة قاهريَّةَ ربِّه للكون، وعَجْزَ الكائنات عن حماية نفسها فيما حدد لها مِن آجال، أو قدر لها مِن مقادير؛ لذلك ذكَّر الحقُّ سبحانه المشركين بفساد فِطرتهم؛ لعلهم يرشُدون، فقال:
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 61] قاهرٌ قهرَ خَلْقٍ واقتدار، وحُكْم وتسيير وتدبير، وقضاء وتقرير، لكل عباده في السمواتِ والأرض، مِن الجنِّ والإنس والملائكة وغيرهم، مما نعلم وما لا نعلم، وما لا يُحيط بعِلمه إلا هو سبحانه، مِن قاهريَّتِه وشمولِ عنايته بخَلْقه أنه عز وجل قال عقِبَ ذلك:
﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ [الأنعام: 61] والمراد بالحفَظة: الملائكةُ المُوكَّلو ن بالحفظ، وتسجيل الأعمال، جمع حافظ؛ أي: يبُثُّ بينكم ملائكةً يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، يكتبون أعمالَكم خيرَها وشرَّها، ويحفَظون عليكم أمنَكم الذي شمِلكم اللهُ به، وأرزاقَكم التي كُتبت لكم، وآجالَكم التي أُجِّلَتْ لكم، فإذا جاء مِن الله قدرُكم ترَكوكم له، وهو ما شرَحه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يتعاقَبو نَ فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجتمعون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثم يعرجُ الذين باتوا فيكم فيسألُهم ربُّهم - وهو أعلمُ بهم -: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّونَ) )، وذلك ما ورد أيضًا في قوله تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَا تٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُون َهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]؛ أي: ملائكة تعتقب على العباد، إذا صعِدت ملائكةُ الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعِدت ملائكةُ النهار أعقبتها ملائكة الليل، فإذا نفِدَت أرزاقهم واستوفَوْا آجالَهم وُكِّل بكل منهم رسلٌ مِن الملائكة آخرون يتوفَّوْنَ هم: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْه ُ رُسُلُنَا ﴾ [الأنعام: 61]؛ أي: مَلَكُ الموت وأعوانُه من الملائكة، ﴿ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُو نَ ﴾ [الأنعام: 61] لا يقصِّرون في تنفيذِ أمر الله، ولا يتهاوَنون ولا يتردَّدون ولا يؤخِّرون أو يقدِّمون، ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُم ُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62] حينئذ تُرَدُّ الأرواح المتوفَّاة إلى مولاها الحقِّ القاهرِ المقتدِر، فتجد نفسَها بيد مَن له الحُكم حقًّا: ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ ﴾ [الأنعام: 62]، له الأمرُ قضاءً وتنفيذًا، وعفوًا ورحمة واسعة وعقابًا شديدًا، ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِ ينَ ﴾ [الأنعام: 62] أسرعُ محاسِبٍ ومُجازٍ لخَلْقه على أعمالهم خيرِها وشرِّها، حينئذٍ يعرف الجهلةُ بالله والمجادلون فيه والمشركون به، سرعةَ حسابٍ لا خيارَ لهم فيها ولا استعتاب[6]، وأنه عز وجل هو مولاهم القاهرُ فوقهم، بأسمائِه وصفاته التي بلَّغهم إياها رسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيزدادون إيمانًا واطمئنانًا وأمنًا وحُسنَ مأوى: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَ نَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأ ُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِ ينَ ﴾ [الزمر 74].

وبعد أن أعذَر الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى المشركينَ بقواطع الحُجج والأدلة وبارَأَهُم ْ بأمرٍ مِن ربه في الدنيا قبل الآخرة، وذكَّرهم بعِلم الله المحيط بالغيب المطلَق، وبما في البَرِّ والبحر من جليلٍ عظيم أو دقيق أو حقير، أو ورقة تتساقط يابسةً متفانية، أو حَبَّة في باطن الأرض تنبت وتنمو رطبة جنية، وبيَّن لهم علمه بما يكسبه المرء أو يكتسبه، وما يكتبه عنه وله الملائكة المتعاقبون بالليل والنهار، وما يقوم به رسلُ الله الموكَّلون بقَبْض الأرواح، أخذ الوحي الكريم في تبكيتهم وتذكيرهم بجحودهم نِعَم اللهِ عليهم بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُ مْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر ِ تَدْعُونَه ُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَن َّ مِنَ الشَّاكِرِ ينَ ﴾ [الأنعام: 63] عبَّر الوحيُ عن شدائد الحياة بظُلمات البَرِّ والبحر على سبيل الاستعارة؛ أي: اسألِ المشركين يا محمدُ عمن ينجيكم من المِحَن والشدائد وأنتم تسعَوْن في البَرِّ آهلين أو ظاعنين أو مبعِدِين[7] ضاربين في الأرض، أو تخُوضون غِمار البحار ساعِين مكتسبين، وتدعون الله جهارًا وسرارًا متضرِّعين، وقد نذَرْتم أن تشكروه إن كشف عنكم الشِّدةَ، والسؤال في هذه الآيةِ الكريمة تمادٍ في التقريع، وشدةُ توبيخٍ لكل مشركٍ آثَرَ اتباعَ الباطل على اتباع الحق، وعبادة الأوثان على عبادة الرحمن.

فإن تردَّد المشركون أو تلجلجوا في الإجابة، فقُلْ لهم يا محمد:
﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُ مْ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 64]، قل لهم: إن اللهَ هو الذي يُنجيكم مِن تلك الشدائد، ﴿ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ [الأنعام: 64]، ويكشِف عنكم كلَّ حزن وهمٍّ وغمٍّ، ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون َ ﴾ [الأنعام: 64] ثم بعد انكشاف الشدائدِ يكون منكم الشِّرك بدل التوحيد، والكُفْران بدل الإيمان، والجحود بدل الشكر، والعصيان بدل الطاعة، تخافون فتتضرَّعون ، ويستجاب لكم فتجحَدون وتُشركون، فبئس ما فعلتم وتفعلون.

ثم انتقَل الوحيُ ختامًا لهذا الموقف إلى التهديدِ باحتمال انتقام الله منهم إن أصرُّوا على إعراضهم وتمرُّدهم وعصيانهم، فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ﴾ [الأنعام: 65] أنذَرهم بأن اللهَ تعالى قادرٌ على أن يعجِّلَ لهم بثلاثة أصناف مِن العذاب في الدنيا:
عذابٍ ﴿ مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]: يرسِلُه عليكم من السماء؛ صواعقَ وعواصفَ، وهدمًا ورَدْمًا، وأنواءً وغيرها.
﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُ مْ ﴾ [الأنعام: 65]: أو عذابٍ مِن تحتكم، يرسله عليكم زلازلَ وخَسْفًا، وغرقًا وحرقًا وغيره.

﴿ أَوْ يَلْبِسَكُ مْ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65]، وهو الصِّنفُ الثالث مِن العذاب، ولفظ: "لبَس يلبِس" بكسرِ عين المضارع مِن اللَّبس وهو الاختلاط، اختلاطُ الكذِب والباطل، واختلاط العقول والمُهَج، مِن قولك: "فلان لُبِّستْ عليه أمورُه"، إذا احتار في تقديرها وأخطأ التصرُّف فيها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاه ُ مَلَكًا لَجَعَلْنَ اهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْ نَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُون َ ﴾ [الأنعام: 9]، قال أبو هلالٍ العسكريُّ في الفروق[8]: (حدُّ اللَّبس: منعُ النفسِ مِن إدراك المعنى)، كما يعني اللَّبْسُ أيضًا تنازُعَ الجماعة الواحدة، أو الأمة الواحدة، واختلاف أهوائها وآرائها وأهدافها، وتشرذمَها وتفرقَها وتنازعَها، كما وقع في فترات تاريخية سابقة داخل الأمة الإسلامية، سقطَتْ فيها بيدِ النفوذ الأجنبي، وذهبت ريحُها، وكما يقع حاليًّا في بلاد المسلمين من تمزُّق ونزاع، واختلاف للوَلَاءات ِ، واصطفاف مع أعداء الأمة، واستِعارٍ للأحقاد داخل المجتمع الواحد، وانتهاك لِمَا صانه اللهُ من الأعراض، وجَراءة على ما حرَّمه مِن الدماء، مما أدى إلى أن يقتُلَ الأخُ أخاه، والابن أباه، ويستعين في ذلك بالأعداء المتربِّصي ن بهم جميعًا.

إن لفظ: ﴿ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65] في الآية الكريمة من حروف ثلاثة: الشين والياء والعين، وله معانٍ ثلاثة، أوَّلها: الانتشار والتفرُّق، في مثل قولك: شاع الخبَرُ إذا تفرَّق، والثاني: الاتباع والتعصُّب للمتبوع؛ كتشييع الجنازة، والثالث: التقوية والتهييج؛ كما تقول: شيَّع النار إذا ألقى عليها الحطَب ليُذْكِيَه ا، ولفظ القُرْآن الكريم في هذه الآية الكريمة: ﴿ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65] يجمَعُ هذه المعانيَ الثلاثة كلها؛ لأنه يفيدُ التفرُّق وانتشاره في الأمة، ويفيد التعصُّب للرأي والانصياع لقادة الفِتَن والتحزب معهم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَتَقَطَّع ُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 53]، ويفيد إذكاءَ نار الفتنة بالاختلاف والتعصُّب والاستبداد بالرأي والتقاتل عليه.

وقوله تعالى: ﴿ يَلْبِسَكُ مْ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65]؛ أي: يجعَلَكم فِرَقًا وطوائفَ مختلفة الأهواء مختلطتها، متضاربة الأهداف متناقضتها، مختلَّة المشاعر مضطربتها؛ لانحرافِكم عن العقيدة التوحيدية الموحدة، وإعراضكم عن المنهجِ الإسلامي السويِّ والصراط المستقيم، وتحاكمكم إلى غير القُرْآن الكريم.

ولذلك عقَّب تعالى على هذا الصِّنف مِن العذاب الذي هو تفرُّق الأمة وتمزُّقها وتقاتُلها، توضيحًا لنتائجِه الكارثية على البلاد والعباد بقوله عز وجل:
﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65] يسلِّط بعضَكم على بعضٍ بالقتل والسَّبي، ومصادرة الأموال، واغتصاب الأعراض، بسبب اختلاطِ أهوائكم واضطرابها، وتبايُن أهدافكم ومصالحكم، واختلاف ولاءاتكم لغير الله، كما يقع حاليًّا في أقطار المسلمين، وكما أخبَر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إن بين يدَيِ الساعةِ الهَرْجَ)) ، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: ((القَتْلُ ، إنه ليس بقَتْلِكم المشركين، ولكن قتل بعضِكم بعضًا، حتى يقتُل الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابنَ عمه))، قالوا: ومعنا عقولُنا يومئذ؟، قال: ((إنه لتُنزَعُ عقولُ أهل ذلك الزمانِ، ويخلف له هباء مِن الناس، يحسَب أكثرُهم أنهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ)).

وقد رُوِيَ في سبب نزول هذه الآية الكريمة عن زيدِ بن أسلَمَ قال: لما نزلت: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُ مْ أَوْ يَلْبِسَكُ مْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض بالسيوف))، فقالوا: ونحن نشهَدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله؟ قال: ((نعم))، فقال بعضُ الناس: لا يكونُ هذا أبدًا؛ فأنزَل الله: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُم ْ يَفْقَهُون َ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرّ ٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُون َ ﴾ [الأنعام: 65 - 67].

ثم عقَّب الحق سبحانه إيقاظًا للعقول، وتحذيرًا مِن مكامن الضلال، وحثًّا على الفهم السليم والنظر السديد والاعتبار الرشيد، فقال عز وجل:
﴿ انْظُرْ ﴾ [الأنعام: 65] والخطابُ هذا موجَّهٌ إلى جميع المؤمنين، في شخص الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ أي: انظُروا أيها المؤمنون: ﴿ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُم ْ يَفْقَهُون َ ﴾ [الأنعام: 65] الآياتُ في هذا السياق تُفيد الحُجَج والبينات؛ أي: انظُروا كيف نُقِيم الحُجَج، ونُقرِّر البيناتِ الهادية للحق، على عامة المشركين في كل عصرٍ إلى قيام الساعة، فنُقدِّم لهم الأدلة على صِدق رسالتك، والبراهين على فساد عقائد الكُفْر والشرك والنفاق، ونُبيِّن لهم ما ينتظر المتلبِّسي ن بها والمُصرِّي ن عليها؛ ﴿ لَعَلَّهُم ْ يَفْقَهُون َ ﴾ [الأنعام: 65]؛ كي يفقَهوا ما هم فيه، وما هم مُقبِلون عليه، وما ينتظرُهم في الدنيا والآخرة.

بهذه الآياتِ الكريمة التي نزلَتْ في هذه الفترة المكية المبكِّرة مِن البعثة النبوية الشريفة، وجَب على كلِّ عاقل أن يُعمِّقَ النظر فيما يرى مِن الكون المنظور؛ خَلْقًا وتصريفًا، وحركة وسكونًا واعتبارًا، واستقراءً للمحسوس، وصولًا إلى المعقول وتعرُّفًا عليه، واستنباطًا لقواعد التفكير السليم مما خلَق الله تعالى؛ بشرًا متسالمًا ومتقاتلًا، وحجَرًا رَطْبًا ويابسًا، وكائنات نامية أو فانية في البحار والقِفار، للوصول إلى تصوُّر إيماني سليم لِما أنزله تعالى من الكتاب والحكمة، وما أرسله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وما بثَّه لهم مِن مناهجَ للحياة سليمة، تُنقِذهم من جحيم الاقتتال والتناحر، وتنأى بهم عن الكُفر والمتلبِّس ين به، والشِّرك والمصرِّين عليه، والنفاق والمجادلين عنه، وتأخذ بهم من طريق رحبٍ مستقيم إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.


[1] الإدْهَانُ : الملاينةُ فيما لا يحلُّ، والمدارَاة ُ: الملايَنة فيما يحلُّ.
[2] أبو داودَ عن أبي الدرداء، ضعَّفه الألباني، ويقويه الحديث الصحيح بعده؛ حديث: ((تعِس عبد الدينار، تعِس عبد...)).
[3] صحيح/ الألباني.
[4] الحديث بلفظ مسلمٍ: مِن طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحدٍ؟ فقال: ((لقد لقِيتُ من قومك، وكان أشدَّ ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يُجِبْني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إن اللهَ قد سمع قول قومِك لك، وما ردوا عليك، وقد بعَث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملَك الجِبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمدُ، إن اللهَ قد سمِع قول قومك لك، وقد بعثني ربُّك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبينِ - وهما جبلَا مَّكَة اللذانِ يكتنفانِها جنوبًا وشمالًا - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَن يعبد الله، لا يُشرك به شيئًا)).
[5] مَوْزور: مِن الوِزر، وهو الإثمُ، ووزَر يَزِرُ، فهو مَوْزور؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]، وفي الحديث النبوي: ((انصرِفْن َ مَأْزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ)، قُلِبَت الواوُ همزةً للازدواجِ.
[6] استعتَب فلانٌ ربَّه إذا سأله إقالتَه من الذَّنب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِ بُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَب ِينَ ﴾ [فصلت: 24]؛ أي: إن يستَقيلوا ربَّهم لم يُقِلْهم.
[7] الآهِل: المقيم، والظاعن: المسافر سفَرًا قريبًا، مِن قوله تعالى: ﴿ تَسْتَخِفّ ُونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِك ُمْ ﴾ [النحل: 80]، والمُبعِد والضارب في الأرض: المسافر سَفَرًا بعيدًا.
[8] كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مِهران العسكري، المتوفى نحو 395هـ.




الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي