لقد جعل الله عز وجل القرآن الكريم كتاب هداية للبشر، وجاءت النصوص دالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك النصوص:
1- قول الله عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُو ا اللَّهَ وَأَطِيعُو ا الرَّسُولَ وَاحْذَرُو ا فَإِنْ تَوَلَّيْت ُمْ فَاعْلَمُو ا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [سورة المائدة: 92] .

2- وقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُو ا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْت ُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُو لِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْم ِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: "يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنتي" [1].

4- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله، وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد.

فقال: "عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًّا، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة"[2].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد من الإنس والجن، كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه، وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله، وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا، في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، في أقوال القلب وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح" [3].

وقال رحمه الله: "جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك - أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى، والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه، لكون ذلك الكلام مجملًا لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده أو لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو تكذيبه، فإنه يمسك، فلا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه دليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم" [4].

5- قوله سبحانه: ﴿ وَالسَّابِ قُونَ الْأَوَّلُ ونَ مِنَ الْمُهَاجِ رِينَ وَالْأَنْص َارِ وَالَّذِين َ اتَّبَعُوه ُمْ بِإِحْسَان ٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنه ﴾ [سورة التوبة: 100]، وقول الله تعالي: "﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِع ْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِن ِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [سورة النساء: 115]، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم مقدمو السلف وقادتهم، فمن اتبعهم بإحسان واقتدى بهم، فقد رضي الله عنه، ومن أعرض عن منهجهم، واقتفى طريقًا غير طريقهم، فقد حلَّ عليه الغضب بدل الرضا.

والسلف إنما يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعرض عن مذهب السلف، فهو ممن شاقَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ورؤوس المؤمنين وسادتهم هم السلف، فمن اتبع غير سبيل السلف فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، واستحق من الوعيد ما ذكر في الآية.

6- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعيش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"[5]، فنهى عليه الصلاة والسلام عن المحدثات، وأمر بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والنهي للتحريم، والأمر للوجوب.

7- عن عبدالله بن مسعود قال: "من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" [6].

8- عن الحسن البصري رحمه الله قال: "السُّ نة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليهما رحمكم الله فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، وكذلك إن شاء الله، فكونوا"[7].

9- عن الأوزاعي رحمه الله قال: "اصبر نفسك على السنة، وقِف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم" [8].

10- عن أبي العالية قال: "تعلمو ا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تُلقي بين أهلها العداوة والبغضاء"[9].

المذهب الحق:
إن المتأمل في مذهب السلف أهل السنة والجماعة، يجد أن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق؛ لأنهم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله[10]، ويعلمون أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي النبي صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، وبهذا سُمُّوا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة [11].

وهم أهل الفهم الرشيد عن الله وعن رسوله، ولذلك تأتي أقوالهم على الاستقامة والسداد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله بعد كلام عن اختلاف المبتدعة: "وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبيَّن له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفًا للفطرة"[12].

ومذهب أهل السنة والجماعة، ليس مذهبًا مبتدعًا، وإنما هو التزام بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقَّوا عن نبيهم.

وكون التسمية بأهل السنة والجماعة حادثة، لا يعني أن مذهب أهل السنة والجماعة حادث، بل مذهب أهل السنة هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده "[13].

ويقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: فأهل السنة المحضة السالمون من البدع، الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة، والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية، ورافضة ومرجئة، ومَن تفرع منهم، كلهم من أهل البدع الاعتقادية[14].

خصائص أهل السنة والجماعة:
1- ثباتهم علي الحق؛ يقول شيخ الإسلام: وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة، أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة [15]، وذلك بسبب صحة توحيدهم واتِّباعهم .

ويقول شيخ الإسلام: والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم من أهل السنة والجماعة من المعرفة واليقين والطمأنينة ، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه - أمرٌ لا ينازع فيه إلا من سلب العقل والدين[16].

2- اتفاقهم على أمور العقيدة، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان؛ يصف الأصفهاني هذا الأمر فيقول: ومما يدل علي أن أهل الحديث هم أهل الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار - وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافًا ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأن جاء على قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دين أبين من هذا؟[17].

3- اعتقادهم أن طريقة السلف الصالح هي الأسلم والأعلم والأحكم.

4- أنهم أعلم الناس بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، لذلك فهم أشد الناس حبًّا للسنة، وأحرصهم على اتباعها، وأكثرهم موالاة لأهلها؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق، وأقومهم قولًا وحالًا، لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك، وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداءً به أفضل الخلق[18].

5- حرصهم على نشر العقيدة الصحيحة والدين القويم الذي بعث الله به صلى الله عليه وسلم، وتعليم الناس وإرشادهم والنصيحة لهم، مع الرد على المخالفين والمبتدعين .

6- وسطيتهم بين الفِرق والطوائف؛ يقول شيخ الإسلام: أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل الأخرى[19].

7- حرصهم على الجماعة والألفة، ودعوتهم لها وحث الناس عليها، ونبذهم للاختلاف والفرقة بين أهل العقيدة والتوحيد، وتحذير الناس من ذلك، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا"، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين َ تَفَرَّقُو ا وَاخْتَلَف ُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَ اتُ وَأُولَئِك َ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ ُ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 105، 106].
قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة.

8- الاقتصار في التلقي على الكتاب والسنة: فهم ينهلون من هذا المنهل العذب عقائدَهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم ، وسلوكَهم، وأخلاقهم، فكل ما وافق الكتاب والسنة قبلوه وأثبتوه، وكل ما خالفهما ردوه على قائله كائنًا من كان.

9- التسليم لنصوص الشرع، وفهمها على مقتضى منهج السلف: فهم يُسلِّمون لنصوص الشرع؛ سواء فهموا الحكمة منها أم لا، ولا يعرضون النصوص على عقولهم، بل يعرضون عقولهم على النصوص، ويفهمونها كما فهمها السلف الصالح.

10 - الاهتمام بالكتاب والسنة: فهم يهتمون بالقرآن حفظًا وتلاوة، وتفسيرًا، وبالحديث دِرايةً ورواية، بخلاف غيرهم من المبتدعة الذي يهتمون بكلام شيوخهم أكثر من اهتمامهم بالكتاب والسنة.

11- احتجاجهم بالسنة الصحيحة وترك التفريق بين المتواتر والآحاد؛ سواء في الأحكام أو العقائد، فهم يرون حجية الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان آحادًا.

12- ليس لهم إمام معظَّم يأخذون كلامه كله، ويدعون ما خالفه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يعرضون كلامه على الكتاب والسنة، فما وافقهما قُبِل، وما لا فلا، فهم يعتقدون أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غيرهم من الفرق الأخرى، ومن متعصبة المذاهب، فإنهم يأخذون كلام أئمتهم كله حتى ولو خالف الدليل.

13- أهل السنة يعظمون السلف الصالح، ويقتدون بهم، ويهتدون بهديهم، ويرون أن طريقتهم هي الأسلم، والأعلم، والأحكم.

14- الجمع بين النصوص في المسألة الواحدة، ورد المتشابه إلى المحكم، فهم يجمعون بين النصوص الشرعية في المسألة الواحدة، ويردون المتشابه إلى المحكم؛ حتى يصلوا إلى الحق في المسألة.

15- الجمع بين العلم والعبادة بخلاف غيرهم، فإما أن يشتغل بالعبادة عن العلم، أو بالعلم عن العبادة، أما أهل السنة والجماعة، فيجمعون بين الأمرين.

16- الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، فهم لا ينكرون الأسباب، ولا تأثيرها إذا ثبتت شرعًا أو قدرًا، ولا يَدَعُون الأخذ بالأسباب، وفي الوقت نفسه لا يلتفتون إليها، ولا يرون أن هناك تنافيًا بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب؛ لأن نصوص الشرع حافلة بالأمر بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، والتزود للأسفار، واتخاذ العدة في مواجهة العدو؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِر ُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِه َا ﴾ [الملك: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّد ُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وقال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّو ا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْت ُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُون َ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 60].

17- الجمع بين التوسع في الدنيا والزهد فيها، فأهل السنة والجماعة لا ينكرون على من يتوسع في الدنيا، ويسعى في كسب الرزق، بل يرون أنه ينبغي للإنسان أن يكفي نفسه ومن يعول، ويستغني عن الناس، ويقطع الطمع مما في أيديهم، على ألا تكون الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وعلى ألا يكتسب المال من غير حله، كما لا يعيبون على من آثر الكفاف، ورضي بالقليل من متاع الدنيا، لأنهم يرون أن الزهد إنما هو زهد القلب، وهو أن يترك الإنسان ما لا ينفع في الآخرة.

أما إذا توسع العبد في الدنيا، وجعلها في يده لا في قلبه، يرفد بها الإخوان، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويعين بها على نوائب الحق، فذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء، كما هو حال الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وغيرهم من أثرياء الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وكحال ابن المبارك رحمه الله، فلقد كان من أغنى أهل زمانه، وهو في الوقت نفسه من أزهدهم إن لم يكن أزهدهم.

18- الجمع بين الخوف والرجاء والحب، فأهل السنة والجماعة يجمعون بين هذه الأمور، ويرون أنه لا تنافي ولا تعارض بينها؛ قال سبحانه وتعالى في وصف عباده الأنبياء والمرسلين: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُو نَ فِي الْخَيْرَا تِ وَيَدْعُون َنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].

وقال في معرض الثناء على سائر عباده المؤمنين: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُم ْ عَنِ الْمَضَاجِ عِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاه ُمْ يُنْفِقُون َ ﴾ [السجدة: 16].
وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم: "من عبَد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف والحب والرجاء، فهو مؤمن موحِّد".

19- الجمع بين الرحمة واللين والشدة والغلظة، بخلاف غيرهم ممن يأخذ جانبًا من هدي السلف ويدع الجانب الآخر، فيأخذون بالشدة في جميع أحوالهم أو باللين في جميع أحوالهم.
أما أهل السنة فيجمعون بين هذا وهذا، وكل في موضعه، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومقتضيات الأحوال.

20- الجمع بين العقل والعاطفة، فعقولهم راجحة، وعواطفهم صادقة، ومعاييرهم منضبطة، فلم يغلِّبوا جانب العقل على العاطفة، ولا جانب العاطفة على العقل، وإنما جمعوا بينهما على أكمل وجه وأتمه، فمع أن عواطفهم قوية مشبوبة، فإن تلك العواطف تضبط بالعقل، وذلك العقل يضبط بالشرع.

21- العدل: فالعدل من أعظم المميزات لأهل السنة والجماعة، فهم أعدل الناس، وأولاهم بامتثال قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِين َ بِالْقِسْط ِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135]، حتى إن الطوائف الأخرى إذا تنازعت احتكمت إلى أهل السنة.

22- الأمانة العلمية: فالأمانة زينة العلم، وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم، وأهل السنة لهم القِدحُ المعلى في ذلك الشأن.
ومن مظاهر الأمانة العلمية عندهم: الأمانة في النقل، والبعد عن التزوير، وقلب الحقائق، وبتر النصوص، وتحريفها، فإذا نقلوا عن مخالف لهم نقلوا كلامه تامًّا، فلا يأخذون منه ما يوافق ما يذهبون إليه، ويدعون ما سواه؛ كي يدينوا المنقول عنه، وإنما ينقلون كلامه تامًّا، فإن كان حقًّا أقرُّوه، وإن كان باطلًا ردُّوه، وإن كان فيه وفيه، قبلوا الحق وردُّوا الباطل.

23- عدم الاختلاف في أصول الاعتقاد: فالسلف الصالح لا يختلفون في أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد؛ فقولهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله واحد، وقولهم في الإيمان وتعريفه ومسائله واحد، وقولهم في القدر واحد، وهكذا في باقي الأصول.

24- ترك الخصومات في الدين، ومجانبة أهل الخصومات؛ لأن الخصومات مدعاةٌ للفرقة والفتنة، ومجلبةٌ للتعصب واتباع الهوى، ومطيةٌ للانتصار للنفس، والتشفي من الآخرين، وذريعة للقول على الله بغير علم.

25- الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق، فهم حريصون كل الحرص على وَحدة المسلمين، ولَمِّ شعثهم، وجمع كلمتهم على الحق، وإزالة أسباب النزاع والفرقة بينهم؛ لعلمهم أن الاجتماع رحمة، وأن الفرقة عذاب، ولأن الله عز وجل أمر بالائتلاف، ونهي عن الاختلاف؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون َ * وَاعْتَصِم ُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو ا ﴾ [آل عمران: 102، 103].

بخلاف الذين يسعون للفرقة بين المسلمين، ويبذرون بذور الشقاق في صفوفهم، فيفرقونهم عند أدنى نازلة، ويحزبونهم ويؤلبون بعضهم على بعض، ويُغرون بعضهم ببعض.

26- هم أوسع الناس أفقًا، وأبعدهم نظرًا، وأرحبهم بالخلاف صدرًا، وأكثرهم للمعاذير التماسًا، وهم لا يأنفون من سماع الحق، ولا تحرج صدورهم من ق***ه، ولا يستنكفون من الرجوع إليه، والأخذ به، ثم إنهم لا يُلزمون الناس باجتهاداته م، ولا يضللون كل من خالفهم.

27- أهل السنة أحسن الناس خلقًا، وأكثرهم حلمًا وسماحة وتواضعًا، وأحرصهم دعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.

28- أهل السنة يدعون إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلكون في ذلك شتى الطرق المشروعة والمباحة؛ حتى يعرف الناس ربهم، فلا أحد أحرص منهم على هداية الخلق، ولا أحد أرحم منهم بالناس.

29- لا يوالون ولا يعادون إلا على أساس الدين، فلا ينتصرون لأنفسهم، ولا يغضبون لها، وإنما يوالون على الدين، فولاؤُهم لله، وبراؤهم لله، ومواقفهم ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير.

30- أهل السنة سالمون من تكفير بعضهم بعضًا، فهم يردون على المخالف منهم، ويوضحون الحق للناس، بخلاف الذين يسارعون في إطلاق الأحكام، ويتهافتون على إلصاق التهم بالأبرياء، فَيُفَسِّق ُون، ويُبدعون، ويُكفرون بالتهمة والظنة، من غير ما برهان أو بيِّنة.

31-أهل السنة والجماعة أكثر الناس رضًا ويقينًا، وطمأنينة، وإيمانًا، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب، والتخبط والتناقض.

32- أهل السنة والجماعة أعظم الناس تحقيقًا لتوحيد الله الذي بعث به المرسلين، القائم على قضيتين متلازمتين؛ الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ودعوتهم الأساسة دعوة الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَ ا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُو نِ ﴾ [الأنبياء: 25].
(وقضية العقيدة والتوحيد عندهم أم القضايا، لا يجوز تخطيها، ولا تأجيلها، ولا المساومة عليها، بل يوادُّون ويبغضون فيها، ويوالون، ويعادون عليها، وهم بذلك يفارقون غيرهم من أهل البدع المنتسبين إلى الإسلام، الذين يسوِّغون الشرك، من خلال الغلو في الصالحين، وتعظيم المقبورين، قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُ وتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَك َ بِالْعُرْو َةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِب ُوا الطَّاغُوت َ ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِين َ اجْتَنَبُو ا الطَّاغُوت َ أَنْ يَعْبُدُوه َا وَأَنَابُو ا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴾ [الزمر: 17].

33- أهل السنة هم الذين يحزنُ الناسُ لفراقهم، قال أيوب السختياني رحمه الله: "إني أُخبرُ بموت الرجل من أهل السنة، فكأنما أفقد بعض أعضائي"[20]، وقال: "إن الذين يتمنون موتَ أهل السُّنَّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون"[21].

هذه مآثر أهل السنة والجماعة، وهذه بعض خصائصهم التي تميزوا بها على غيرهم، وليس معنى ذلك أن أهل السنة معصومون؟ لا، بل إن منهجهم هو المعصوم، وجماعتهم هي المعصومة، أما آحادهم فقد يقع منه الظلم والبغي، والعدوان، وارتكاب المخالفات، ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا يُقَرُّ من فعل ذلك منهم، بل يبتعد عن السنة بقدر مخالفته، ثم إن ما عند أهل السنة من مخالفات وأخطاء، فعند غيرهم أكثر مما عندهم، وما عند غيرهم من فضل وعلم وكمال، فعند أهل السنة أكمله وأتمه.

فما أجدرنا معاشر المسلمين أن نأخذ بمنهج أهل السنة، وأن نوطن أنفسنا على ذلك، وما أحرانا نحن أهل السنة أن نقوم بالسنة حق القيام، وأن نقتدي بسلفنا الصالح في كل أمورنا؛ لنرضي ربنا جل وعلا، ولنعطي صورة مشرقة عن الإسلام الصحيح النقي؛ ليقبل الناس عليه، ويحرصوا على الدخول فيه، ولئلا نصبح فتنة لغيرنا من الكفار والمبتدعة.


[1] أخرجه مالك في الموطأ والحاكم من حديث ابن عباس وإسناده حسن، وحسته الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 1761 ).
[2] صحيح الترمذي (5|44) وابن ماجه (97) وأحمد (4|126) وأبو داود( 2|261).
[3] مجموع الفتاوى (10/ 430).
[4] مجموع الفتاوى (13/ 135).
[5] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549).
[6] أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2 ، 97).
[7] إغاثة اللهفان (1/ 70).
[8] رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (1/ 154)، والبيهقي في المدخل (223) والآجري في الشريعة (58).
[9] رواه المروزي في السنة (8)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 338).
[10] مجموع الفتاوى (3/ 347).
[11] مجموع الفتاوى (3/ 157).
[12] مجموع الفتاوى (5/ 212).
[13] مناهج السنة (2/ 482)..
[14] الفتاوى السعدية (ص 63) .
[15] مجموع الفتاوى (1/ 51). .
[16] مجموع الفتاوى (4/ 49). .
[17] الحجة في بيان المحجة (2/ 224).
[18] مجموع الفتاوى 4/ 140-141.
[19] مجموع الفتاوى (3/ 141) .
[20] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 1/ 66).
[21] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 1/ 68).




محيي الدين محمد عطية